الإعجاز اللغوي والبياني في القرآن الكريم
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آهل وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.أما بعد :
فإن الله تعالى قد ختم الرسالات السماوية برسالة محمد ﷺ، ألا وهي القرآن الكريم.
وقد أنزله بلغة العرب كما قال تعالى :﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (٢) سورة يوسف.
ولما كان العرب قد بزُّوا غيرهم بالفصاحة والبيان، فكان القرآن الكريم معجزا بلفظه ومعناه، فتحداهم بما هم متميزون به، فعجزوا عن مجاراته، وسلَّموا له في نهاية المطاف، قال تعالى :﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (٨٨) سورة الإسراء
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المشركين الذين قالوا - كما حكى الله عنهم - ﴿ لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا ﴾ قل لهم على سبيل التحدى والتعجيز : والله لئن اجتمعت الإِنس والجن، واتفقوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، الذى أنزله الله - تعالى - من عنده على قلبى.. لا يستطيعون ذلك. ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا ومعينًا ومناصرًا، فى تحقيق ما يتمنونه من الإِتيان بمثله.
وخص - سبحانه - ﴿ الإِنس والجن ﴾ بالذكرن لأن المنكر كون القرآن من عند الله، من جنسهما لا من جنس غيرهما كالملائكة - مثلاً -، فإنهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولأن التحدى إنما هو للإِنس والجن الذين أرسل الرسول ﷺ إليهم، لهدايتهم إلى الصراط المستقيم.
وقال - سبحانه - :﴿ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ فأظهر فى مقام الإِضمار، ولم يكتف بأن يقول : لا يأتون به، لدفع توهم أن يتبادر إلى الذهن أن له مثلاً معينًا، وللإِشعار بأن المقصود نفى المثل على أى صفة كانت هذه المثلية، سواء أكانت فى بلاغته، أم فى حسن نظمه، أم فى إخباره عن المغيبات، أم فى غير ذلك من وجوه إعجازه.
وقوله :﴿ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ معطوف على مقدر، أى : لا يستطيعون الإِتيان بمثله لو لم يكن بعضهم ظهيرا ونصيرا لبعض، ولو كان بعضهم ظهيرا ونصيرا لبعض لما استطاعوا أيضًا.
والمقصود أنهم لا يستطيعون الإِتيان بمثله على أية حال من الأحوال؛ وبأية صورة من الصور، لأنه متى انتفى إتيانهم بمثله مع المظاهرة والمعاونة، انتفى من باب الأولى الإِتيان بمثله مع عدمهما. وقوله :﴿ لبعض ﴾ متعلق بقوله ﴿ ظهيرا ﴾.
ولقد بين - سبحانه - فى آيات أخرى أنهم لن يستطيعوا الإِتيان بعشر سور من مثله، بل بسورة واحدة من مثله.
قال - تعالى - :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ وقال - سبحانه - :﴿ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾( التفسير الوسيط )
فهذا القرآن ليس ألفاظا وعبارات يحاول الإنس والجن أن يحاكوها. إنما هو كسائر ما يبدعه الله يعجز المخلوقون أن يصنعوه. هو كالروح من أمر الله لا يدرك الخلق سره الشامل الكامل، وإن أدركوا بعض أوصافه وخصائصه وآثاره.
والقرآن بعد ذلك منهج حياة كامل. منهج ملحوظ فيه نواميس الفطرة التي تصرف النفس البشرية في كل أطوارها وأحوالها، والتي تصرف الجماعات الإنسانية في كل ظروفها وأطوارها. ومن ثم فهو يعالج النفس المفردة، ويعالج الجماعة المتشابكة، بالقوانين الملائمة للفطرة المتغلغلة في وشائجها ودروبها ومنحنياتها الكثيرة. يعالجها علاجا متكاملا متناسق الخطوات في كل جانب، في الوقت الواحد، فلا يغيب عن حسابه احتمال من الاحتمالات الكثيرة ولا ملابسة من الملابسات المتعارضة في حياة الفرد وحياة الجماعة. لأن مشرع هذه القوانين هو العليم بالفطرة في كل أحوالها وملابساتها المتشابكة.
أما النظم البشرية فهي متأثرة بقصور الإنسان وملابسات حياته. ومن ثم فهي تقصر عن الإحاطة بجميع الاحتمالات في الوقت الواحد ; وقد تعالج ظاهرة فردية أو اجتماعية بدواء يؤدي بدوره إلى بروز ظاهرة أخرى تحتاج إلى علاج جديد !
إن إعجاز القرآن أبعد مدى من إعجاز نظمه ومعانيه، وعجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله هو عجز كذلك عن إبداع منهج كمنهجه يحيط بما يحيط به.
(ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا. وقالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ; أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ; أو تسقط السماء - كما زعمت - علينا كسفا ; أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ; أو يكون لك بيت من زخرف ; أو ترقى في السماء. ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه...).
وهكذا قصر إدراكهم عن التطلع إلى آفاق الإعجاز القرآنية، فراحوا يطلبون تلك الخوارق المادية، ويتعنتون في اقتراحاتهم الدالة على الطفولة العقلية، أو يتبجحون في حق الذات الإلهية بلا أدب ولا تحرج.. لم ينفعهم تصريف القرآن للأمثال والتنويع فيها لعرض حقائقه في أساليب شتى تناسب شتى العقول والمشاعر، وشتى الأجيال والأطوار. (فأبى أكثر الناس إلا كفورا) وعلقوا إيمانهم بالرسول ﷺ بأن يفجر لهم من الأرض ينبوعا ! أو بأن تكون له جنة من نخيل وعنب يفجر الأنهار خلالها تفجيرا ! أو أن يأخذهم بعذاب من السماء، فيسقطها عليهم قطعا كما أنذرهم أن يكون ذلك يوم القيامة ! أو أن يأتي بالله والملائكة قبيلا يناصره ويدفع عنه كما يفعلون هم في قبائلهم ! أو أن يكون له بيت من المعادن الثمينة. أو أن يرقى في السماء. ولا يكفي أن يعرج إليها وهم ينظرونه، بل لا بد أن يعود إليهم ومعه كتاب محبر يقرأونه !
وتبدو طفولة الإدراك والتصور، كما يبدو التعنت في هذه المقترحات الساذجة. وهم يسوون بين البيت المزخرف والعروج إلى السماء ! أو بين تفجير الينبوع من الأرض ومجيء الله - سبحانه - والملائكة قبيلا ! والذي يجمع في تصورهم بين هذه المقترحات كلها هو أنها خوارق. فإذا جاءهم بها نظروا في الإيمان له والتصديق به !
وغفلوا عن الخارقة الباقية في القرآن، وهم يعجزون عن الإتيان بمثله في نظمه ومعناه ومنهجه، ولكنهم لا يلمسون هذا الإعجاز بحواسهم فيطلبون ما تدركه الحواس !
والخارقة ليست من صنع الرسول، ولا هي من شأنه، إنما هي من أمر الله سبحانه وفق تقديره وحكمته. وليس من شأن الرسول أن يطلبها إذا لم يعطه الله إياها. فأدب الرسالة وإدراك حكمة الله في تدبيره يمنعان الرسول أن يقترح على ربه ما لم يصرح له به.. (قل: سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا) يقف عند حدود بشريته، ويعمل وفق تكاليف رسالته، لا يقترح على الله ولا يتزيد فيما كلفه إياه.( الظلال)
===================
وكان الذي نزل عليه القرآن - ﷺ - أميًّا لا يقرأ ولا يكتب كما قال تعالى :﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ (٢) سورة الجمعة
أى : هو - سحبانه - وحده، الذى ﴿ بَعَثَ ﴾ بفضله وكرمه، ﴿ فِي ﴾ العرب ﴿ الأميين رَسُولاً ﴾ كريما عظيما، كائنا ﴿ مِّنْهُمْ ﴾ أى : من جنسهم يعرفون حسبه ونسبه وخلقه... هذا الرسول الكريم أرسلناه إليهم، ليقرأ عليهم آيات الله - تعالى - التى أنزلها عليه لهدايتهم وسعادتهم، متى آمنوا بها، وعملوا بما اشتملت عليه من توجيهات سامية.
وأرسلناه إليهم - أيضا - ليزكيهم، أى : وليطهرهم من الكفر والقبائح والمنكرات وليعلمهم الكتاب، بأن يحفظهم إياه، ويشرح لهم أحكامه، ويفسر لهم ما خفى عليهم من ألفاظه ومعانيه.
وليعلمهم - أيضا - الحكمة. أى : العلم النافع المصحوب بالعمل الطيب وصدر - سبحانه - الآية الكريمة بضمير اسم الجلالة، لتربية المهابة فى النفوس، ولتقوية ما اشتملت عليه من نعم وأحكام، إذ هو - سبحانه - وحده الذى فعل ذلك لا غيره.
وعبر - سبحانه - بفى المفيدة للظرفية فى قوله - تعالى - :﴿ فِي الأميين ﴾. للإشعار بأن هذا الرسول الكريم الذى أرسله إليهم، كان مقيما فيهم، وملازما لهم، وحريصا على أن يبلغهم رسالة الله - تعالى - فى كل الأوقات والأزمان.
والتعبير بقوله :﴿ مِّنْهُمْ ﴾ فيه ما فيه من دعوتهم إلى الإيمان به، لأن هذا الرسول الكريم، ليس غريبا عنهم، بل هو واحد منهم شرفهم من شرفه، وفضلهم من فضله...
وهذه الآية الكريمة صريحة فى أن الله - تعالى - قد استجاب دعوة نبيه إبراهيم - عليه السلام - عندما دعاه بقوله :﴿ رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم.. ﴾ وقد جاء ترتيب هذه الآية الكريمة وأمثالها فى أسمى درجات البلاغة والحكمة، لأن أول مراحل تبليغ الرسالة، يكون بتلاوة القرآن، ثم ثنى - سبحانه - بتزكيه النفوس من الأرجاس، ثم ثلث بتعليم الكتاب والحكمة لأنهما يكونان بعد التبليغ والتزكية للنفوس.
ولذا قالوا : إن تعليم الكتاب غير تلاوته، لأن تلاوته معناها، قراءته قراءة مرتلة، أما تعليمه فمعناه : بيان أحكامه، وشرح ما خفى من ألفاظه وأحكامه...
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة، قد اشتملت على جملة من الصفات الجليلة التى منحها - سبحانه - لنبيه محمد - ﷺ -.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك حال الناس قبل بعثته - ﷺ - فقال :﴿ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾.
وهذه الجملة الكريمة فى موضع الحال من قوله :﴿ هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين.. ﴾ و " إن " فى قوله ﴿ وَإِن كَانُواْ.. ﴾ مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف.
أى : هو - سبحانه - بفضله وكرمه، الذى بعث فى الأميين رسولا منهم، وحالهم أنهم كانوا قبل إرسال هذا الرسول الكريم فيهم، فى ضلال واضح لا يخفى أمره على عاقل، ولا يلتبس قبحه على ذى ذوق سليم وحقا لقد كان الناس قبل أن يبزغ نور الإسلام، الذى جاء به النبى - ﷺ - من عند ربه، فى ضلال واضح، وظلام دامس، من حيث العقائد والعبادات، والأخلاق والمعاملات.
فكان من رحمة الله - تعالى - بهم، أن أرسل فيهم رسوله محمدا - ﷺ - لكى يخرجهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان، إلى نور الهداية والاستقامة والإيمان.
ثم بين - سبحانه - أن رسالة رسوله محمد - ﷺ - لن يكون نفعها مقصورا على المعاصرين له والذين شاهدوه... بل سيعم نفعها من سيجيئون من بعدهم، فقال - تعالى - :﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ العزيز الحكيم.. ﴾.
وقوله :﴿ وَآخَرِينَ ﴾ جمع آخر بمعنى الغير، والجملة معطوفة على قوله قبل ذلك ﴿ فِي الأميين.. ﴾ فيكون المعنى :
هو - سبحانه - الذى بعث فى الأميين رسولا منهم، كما بعثه فى آخرين من
وقال تعالى :﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢)ْ[الشورى/٥١-٥٢]
فهذه الآية الكريمة قد دلت على أن تكليم الله - تعالى - للبشر وقع على ثلاثة أوجه :
الأول : عن طريق الوحى، وهو الإِعلام فى خفاء وسرعة عن طريق الإِلقاء فى القلب يقظة أو مناما، ويشمل الإِلهام والرؤيا المنامية.
والوحى مصدر أوحى، وقد غلب استعماله فيما يلقى للمصطفين الأخيار من الكلمات الإِلهية.
والثانى : عن طريق الإِسماع من وراء حجاب، أى حاجز، بأن يسمع النبى كلاما دون أن يرى من يكلمه، كما حدث لموسى. عليه السلام - عندما كلمه ربه - عز وجل -، وهذا الطريق هو المقصود بقوله - تعالى - :{ أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ﴾.
والثالث : عن طريق إرسال ملك، وظيفته أن يبلغ الرسول ما أمره الله بتبليغه له، وهو المقصود بقوله - تعالى - ﴿ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ ﴾.
وهذا الطريق الثالث قد وضحه الحديث الذى رواه الإِمام البخارى " عن عائشة - رضى الله عنها - أن الحارث بن هشام، سأل رسول الله - ﷺ - فقال : يا رسول الله، كيف يأتيك الوحى؟ فقال - ﷺ - أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس - " وهو أشد على - أى : أحيانا يأتينى مشابها صوته وقوع الحديد بعضه على بعض - فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكملنى فأعى ما يقول.
قالت عائشة : ولقد رأيته - ﷺ - ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد، فيصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقا.
والمعنى : وما صح وما استقام لبشر أن يكلمه الله - تعالى - فى من حال الأحوال إلا موحيا إليه، أو مسمعا أياه ما يريد إسماعه له من وراء حجاب أو يرسل إليه ملكا ليبلغه ما يريده - سبحانه - منه.
وقوله - تعالى - ﴿ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ تعليل لما قبله، أى : إنه - سبحانه - متعال عن صفات النقص، حكيم فى كل أقواله وأفعاله.
ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على نبيه - ﷺ - فقال :﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان.. ﴾.
والكاف فى قوله " كذلك " بمعنى مثل واسم الإِشارة يعود إلى ما أوحاه إلى الرسل السابقين.
والمراد بالروح : القرآن - وسماه - سبحانه - روحا، لأن الأرواح تحيا به، كما تحيا الأبدان بالغذاء المادى.
أى : ومثل إيحائنا إلى غيرك من الرسل، أوحينا إليك - أيها الرسول الكريم، هذا القرآن، الذى هو بمنزلة الأرواح للأجساد، وقد أوحيناه إليك بأمرنا وإرادتنا ومشيئتنا، وأنت - أيها الرسول الكريم - ما كنت تعرف أو تدرك حقيقة هذا الكتاب حتى عرفناك إياه، وما كنت تعرف أو تدرك تفاصيل، وشرائع وأحكام هذا الذين الذى أحينا إليك بعد النبوة.
فالمقصود بهذه الآية الكريمة نفى علم الرسول - ﷺ - بهذا القرآن قبل النبوة، ونفى أن يكون - أيضا - عالما بتفاصيل وأحكام هذا الدين لا نفى أصل الإِيمان.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - :﴿ وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾ وقوله - سبحانه - :﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين ﴾ والضمير فى قوله - تعالى - :﴿ ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ يعود إلى القرآن الكريم، الذى عبر عنه بالروح.
أى : ولكن جعلنا هذا القرآن العظيم نورا ساطعا، نهدى به من نشاء هدايته من عبادنا ﴿ وَإِنَّكَ ﴾ أيها الرسول الكريم ﴿ لتهدي ﴾ من أرسلناك إليهم ﴿ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ أى طريق واضح قويم اعوجاج فيه ولا التواء.
وقوله :﴿ صِرَاطِ الله ﴾ بدل مما قبله، وإضافته إلى الله - تعالى - للتفخيم والتشريف.
أى : وإنك لترشد الناس إلى صراط الله ﴿ الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ ملكا وخلقا وتصرفا..
﴿ أَلاَ إِلَى الله ﴾ - تعالى - وحده ﴿ تَصِيرُ الأمور ﴾ أى : تنتهى إليه الأمور وتصعد إليه وحده، فيقضى فيها بقضائه العادل، وبحكمه النهائى الذى لا معقب له.(التفسير الوسيط
(وكذلك). بمثل هذه الطريقة، وبمثل هذا الاتصال. (أوحينا إليك).. فالوحي تم بالطريقة المعهودة، ولم يكن أمرك بدعا. أوحينا إليك (روحاً من أمرنا).. فيه حياة، يبث الحياة ويدفعها ويحركها وينميها في القلوب وفي الواقع العملي المشهود. (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان).. هكذا يصور نفس رسول الله ﷺ وهو أعلم بها، قبل أن تتلقى هذا الوحي. وقد سمع رسول الله ﷺ عن الكتاب وسمع عن الإيمان، وكان معروفاً في الجزيرة العربية أن هناك أهل كتاب فيمن معهم، وأن لهم عقيدة، فليس هذا هو المقصود. إنما المقصود هو اشتمال القلب على هذه الحقيقة والشعور بها والتأثر بوجودها في الضمير. وهذا ما لم يكن قبل هذا الروح من أمر الله الذي لابس قلب محمد - عليه صلوات الله.
(ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء).. وهذه طبيعته الخالصة. طبيعة هذا الوحي. هذا الروح. هذا الكتاب. إنه نور. نور تخالط بشاشته القلوب التي يشاء لها الله أن تهتدي به، بما يعلمه من حقيقتها، ومن مخالطة هذا النور لها.
(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم).. وهناك توكيد على تخصيص هذه المسألة، مسألة الهدى، بمشيئة الله سبحانه، وتجريدها من كل ملابسة، وتعليقها بالله وحده يقدرها لمن يشاء بعلمه الخاص، الذي لا يعرفه سواه ; والرسول ﷺ واسطة لتحقيق مشيئة الله، فهو لا ينشى ء الهدى في القلوب ; ولكن يبلغ الرسالة، فتقع مشيئة الله.
(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض).. فهي الهداية إلى طريق الله، الذي تلتقي عنده المسالك. لأنه الطريق إلى المالك، الذي له ما في السماوات وما في الأرض ; فالذي يهتدي إلى طريقه يهتدي إلى ناموس السماوات والأرض، وقوى السماوات والأرض، ورزق السماوات والأرض، واتجاه السماوات والأرض إلى مالكها العظيم. الذي إليه تتجه، والذي إليه تصير:
(ألا إلى الله تصير الأمور)..
فكلها تنتهي إليه، وتلتقي عنده، وهو يقضي فيها بأمره.
وهذا النور يهدي إلى طريقه الذي اختار للعباد أن يسيروا فيه، ليصيروا إليه في النهاية مهتدين طائعين.
وهكذا تنتهي السورة التي بدأت بالحديث عن الوحي. وكان الوحي محورها الرئيسي. وقد عالجت قصة الوحي منذ النبوات الأولى. لتقرر وحدة الدين، ووحدة المنهج، ووحدة الطريق. ولتعلن القيادة الجديدة للبشرية ممثلة في رسالة محمد ﷺ وفي العصبة المؤمنة بهذه الرسالة. ولتكل إلى هذه العصبة أمانة القيادة إلى صراط مستقيم. صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض. ولتبين خصائص هذه العصبة وطابعها المميز، الذي تصلح به للقيادة، وتحمل به هذه الأمانة. الأمانة التي تنزلت من السماء إلى الأرض عن ذلك الطريق العجيب العظيم..(الظلال)
==============
بل تحداهم على أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا كذلك، قال تعالى :﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (٢٣) سورة البقرة
ومن ثمَّ فقد أيقنوا أنه من عند الله تعالى، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر وقال سيدهم الوليد : والله، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوةً، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر.
==============
وقد ألف في إعجاز القرآن الكريم كتب كثيرة قديما وحديثا أهمها :
إعجاز القرآن للباقلاني
وإعجاز القرآن للرافعي
وغيرهما
وهذا الكتاب قد جمعت فيه ما تناثر من إعجاز اللغوي والبياني مما كتب على النت وقد بلغت حوالي مائة وأربعين بحثا لعلماء أجلاء معاصرين فجزاهم الله عنه خير الجزاء.
بحيث تكون هذه الأبحاث إسهاما منهم في توضيح فكرة الإعجاز اللغوي والبياتي في وقت أصبح فيه كثير من العرب - قبل العجم - لا يدركون معناها بسبب بعدهم عن حوهر دينهم وجوهر لغتهم.
وسيبقى هذا القرآن معجزا بلفظه ومعناه إلى إن يرث الله الأرض من وعليها
قال تعالى :﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ (٨٢) سورة النساء
إن هؤلاء المنافقين والذين فى قلوبهم مرض قد خيب الله سعيهم، وكشف خباياهم، ورأوا بأعينهم سوء عاقبة الكافرين وحسن عاقبة المؤمنين، فهلا دفعهم ذلك إلى الإِيمان وإلى تدبر القرآن وما اشتمل عليه من هدايات وإرشادات وأخبار صادقة، وأحكام حكيمة.. تشهد بأنه من عند الله - تعالى -، ولو كان هذا القرآن من عند غير الله أى من إنشاء البشر لوجدوا فى أخباره وفى نظمه وفى أسلوبه وفى معانيه اختلافا كثيرا فضلا عن الاختلاف القليل، ولكن القرآن لأنه من عند الله وحده قد تنزه عن كل ذلك وخلا من كل اختلاف سواء أكان كثيراً أم قليلا.
فالمراد بالاختلاف : تباين النظم، وتناقض الحقائق، وتعارض الأخبار وتضارب المعانى، وغير ذلك مما خلا منه القرآن الكريم لأنه يتنافى مع بلاغته وصدقه.
وفى ذلك يقول صاحب الكشاف : قوله ﴿ لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً ﴾ أى : لكان الكثير منه مختلفا متناقضا قد تفاوت نظمه وبلاغته ومعانيه فكان بعضه بالغا حد الإِعجاز. وبعضه قاصرا عنه تمكن معارضته، وبعضه إخبارا يغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه، وبعضه دالا على معنى صحيح عند علماء المعانى، وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم.
فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائقة لقوى البلغاء، وتناصر معان، وصدق أخبار دل على أنه ليس إلا من عند قادر على ما لم يقدر عليه غيره، عالم بما لا يعلمه أحد سواه.
فالآية الكريمة تدعو الناس فى كل زمان ومكان إلى تدبر القرآن الكريم وتأمل أحكامه، والانقياد لما اشتمل عليه من توجيهات وإرشادات وأوامر ونواه، ليسعدوا فى دنياهم وآخرتهم.( التفسير الوسيط )
فالتناسق المطلق الشامل الكامل هو الظاهرة التي لا يخطئها من يتدبر هذا القرآن أبدا.. ومستوياتها ومجالاتها، مما تختلف العقول والأجيال في إدراك مداها. ولكن كل عقل وكل جيل يجد منها - بحسب قدرته وثقافته وتجربته وتقواه - ما يملك إدراكه، في محيط يتكيف بمدى القدرة والثقافة والتجربة والتقوى.
ومن ثم فإن كل أحد، وكل جيل، مخاطب بهذه الآية. ومستطيع - عند التدبر وفق منهج مستقيم - أن يدرك من هذه الظاهرة - ظاهرة عدم الاختلاف، أو ظاهرة التناسق - ما تهيئه له قدرته وثقافته وتجربته وتقواه..
وتلك الطائفة في ذلك الجيل كانت تخاطب بشيء تدركه، وتملك التحقق منه بإدراكها في حدودها الخاصة.
تتجلى هذه الظاهرة. ظاهرة عدم الاختلاف
من بديع الإيجاز والإطناب في القرآن الكريم
أولاً- يعرف علماء البلاغة الإيجاز بأنه التعبير عن المراد بلفظ غير زائد، ويقابله الإطناب؛ وهو التعبير عن المراد بلفظ أزيد من الأول. ويكاد يجمع الجمهور على أن الإيجاز، والاختصار بمعنى واحد؛ ولكنهم يفرقون بين الإطناب، والإسهاب بأن الأول تطويل لفائدة، وأن الثاني تطويل لفائدة، أو غير فائدة.
ويعدُّ الإيجاز والإطناب من أعظم أنواع البلاغة عند علمائها، حتى نقل صاحب سر الفصاحة عن بعضهم أنه قال: اللغة هي الإيجاز والإطناب. وقال الزمخشري صاحب الكشاف: كما أنه يجب على البليغ في مظانِّ الإجمال أن يجمل ويوجز، فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل أن يفصل ويشبع.
ثانيًا- ومن بديع الإيجاز قوله تعالى في وصف خمر الجنة:" لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ "(الواقعة: ١٩)، فقد جمع عيوب خمر الدنيا من الصداع، وعدم العقل، وذهاب المال، ونفاد الشراب.
وحقيقة قوله تعالى:" لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا ". أي: لا يصدر صداعهم عنها. والمراد: لا يلحق رؤوسهم الصداع، الذي يلحق من خمر الدنيا. وقيل: لا يفرقون عنها، بمعنى: لا تقطَع عنهم لذتهُم بسبب من الأسباب، كما تفرق أهل خمر الدنيا بأنواع من التفريق.
وقرأ مجاهد:" لَا يَصَدَّعُونَ "، بفتح الياء وتشديد الصاد، على أن أصله: يتصدعون، فأدغم التاء في الصاد. أي: لا يتفرقون؛ كقوله تعالى:" يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ "(الروم: ٤٣). وقُرِىءَ:" لَا يَصَدَعُونَ "، بفتح الياء والتخفيف. أي: لا يصدع بعضهم بعضًا، ولا يفرقونهم. أي: لا يجلس داخل منهم بين اثنين، فيفرق بين المتقاربين؛ فإنه سوء أدب، وليس من حسن العشرة.
وقوله تعالى:" وَلَا يُنْزِفُونَ "، قال مجاهد، وقتادة، والضحاك: لا تذهب عقولهم بسكرها، من نزف الشارب، إذا ذهب عقله. ويقال للسكران: نزيف ومنزوف. قيل: وهو من نزف الماء: نزحه من البئر شيئًا فشيئًا.
ثالثًا- ومن بديع الإطناب قوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام:" وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى "(يوسف: ٥٣).
ففي قوله:" وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي " تحيير للمخاطب وتردد، في أنه كيف لا يبرىء نفسه من السوء، وهي بريئة، قد ثبت عصمتها ! ثم جاء الجواب عن ذلك بقوله:" إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى ".
والمراد بالنَّفْسَ النفس البشرية عامة. وأمَّارَةٌ صيغة مبالغة على وزن: فعَّالة. أي: كثيرة الأمر بِالسُّوءِ. أي: بجنسه. والمراد: أنها كثيرة الميل إلى الشهوات. والمعنى: إن كل نفس أمارة بالسوء، إلا نفسًا رحمها الله تعالى بالعصمة.
وهذا التفسير محمول على أن القائل يوسف عليه السلام. والظاهر أنه من قول امرأة العزيز، وأنه اعتذار منها عما وقعت فيه مما يقع فيه البشر من الشهوات. والمعنى: وما أبريء نفسي، مع ذلك من الخيانة، فإني قد خنته حين قذفته، وقلت:" مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ "(يوسف: ٢٥)، وأودعته السجن. تريد بذلك الاعتذار مما كان منها. ثم استغفرت ربها، واسترحمته مما ارتكبت.
رابعًا- ومن الآيات البديعة، التي جمعت بين الإيجاز والإطناب، في أسلوب رفيع من النظم بديع، قول الله تعالى:
" حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"(النمل: ١٨)
أما الإطناب فنلحظه في قول هذه النملة:" يَا أَيُّهَا "، وقولها:" وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ". أما قولها:" يَا أَيُّهَا " فقال سيبويه:" الألف والهاء لحقت ﴿ أيًّا ﴾ توكيدًا؛ فكأنك كررت ﴿ يا ﴾ مرتين، وصار الاسم تنبيهًا ".
وقال الزمخشري:" كرر النداء في القرآن بـ" يَا أَيُّهَا "، دون غيره؛ لأن فيه أوجهًا من التأكيد، وأسبابًا من المبالغة؛ منها: ما في ﴿ يا ﴾ من التأكيد، والتنبيه، وما في ﴿ ها ﴾ من التنبيه، وما في التدرُّج من الإبهام في ﴿ أيّ ﴾ إلى التوضيح. والمقام يناسبه المبالغة، والتأكيد ".
وأما قولها:" وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ" فهو تكميل لما قبله، جيء به، لرفع توهُّم غيره، ويسمَّى ذلك عند علماء البلاغة والبيان: احتراسًا؛ وذلك من نسبة الظلم إلى سليمان- عليه السلام- وكأن هذه النملة عرفت أن الأنبياء معصومون، فلا يقع منهم خطأ إلا على سبيل السهو. قال الرازي:" وهذا تنبيه عظيم على وجوب الجزم بعصمة الأنبياء، عليهم السلام ".
ومثل ذلك قوله تعالى:" وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ "(الفتح: ٢٥). أي: تصيبكم جناية كجناية العَرِّ؛ وهو الجرب.