فأما أن يكون هناك ناموس، وراءه هدف، ووراء الهدف حكمة، وأن يكون قدوم الإنسان إلى هذه الحياة وفق قدر يجري إلى غاية مقدرة، وأن ينتهي إلى حساب وجزاء، وأن تكون رحلته على هذه الأرض ابتلاء، ينتهي إلى الحساب والجزاء.. أما هذا التصور الدقيق المتناسق، والشعور بما وراءه من ألوهية قادرة مدبرة حكيمة، تفعل كل شيء بقدر، وتنهي كل شيء إلى نهاية.. أما هذا فكان أبعد شيء عن تصور الناس ومداركهم، في ذلك الزمان.
وهذه اللمسة: " أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى " هي إحدى لمسات القرآن التوجيهية للقلب البشري؛ كي يتلفت ويستحضر الروابط والصلات، والأهداف والغايات، والعلل والأسباب، التي تربط وجوده بالوجود كله، وبالإرادة المدبرة للوجود كله.
وفي غير تعقيد ولا غموض، يأتي سبحانه وتعالى بالدلائل الواقعة البسيطة، التي تشهد بأن الإنسان لن يترك سدى.. إنها دلائل نشأته الأولى، التي يدركها الإنسان بفطرته السليمة:
" أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى *أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى *ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى *فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى "(القيامة: ٣٦- ٣٩)
وأمام هذه الحقيقة، التي تفرض نفسها فرضًا على الحس البشري، يجيء الإيقاع الشامل لجملة من الحقائق، التي تعالجها السورة:" أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى " ؟
وجمهور العلماء على القول بأن همزة الاستفهام، إذا دخلت على النفي؛ كما في هذه الآية:" أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ "، أفادت معنى التحقيق والتقرير، وأن الباءالداخلة على الخبر " بِقَادِرٍ " زائدة للتوكيد، وعليه يكون قوله تعالى:" أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ "، وقولهم في تقديره:
﴿ أليس ذلك قادرًا﴾، سواء في المعنى.
وفي الحقيقة أن الهمزة الداخلة على النفي لا تفيد معنى التقرير في الجمل المنفية، إلا بدخول ﴿ الباء ﴾على خبر المنفي، أو ما يقوم مقامه. وبعبارة أخرى: التقرير لا يستفاد من دخول الهمزة على النفي؛ وإنما يستفاد من دخول الباء على الخبر الواقع في سياق هذا المنفي. ونحو ذلك قوله تعالى:
" أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ "(الأنعام: ٥٣)
" أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ "(الزمر: ٣٦)
" أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ "(الزمر: ٣٧)
" أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ "(التين: ٨)
فالنفي في هذه الآيات جميعًا، ونحوها قد انتقض، وخرج إلى إثبات حاسم، مرادًا به التقرير. أما الإثبات فمستفاد من دخول ﴿ الهمزة ﴾على " لَيْسَ ". وأما التقرير فمستفاد من دخول الباء على الخبر. وهذا هو سرُّ الإعجاز البياني في هذه الباء، التي حكموا عليها ظلمًا وعدوانًا بالزيادة !
ثالثًا- وبعدُ.. فإنه ينفد القول، وما تنفد كلمات ربي، وما تنطوي عليه من أسرار البيان. وإن كنت قد اكتفيت بهذا القدر مما ذكرت من هذه الأسرار المبهرة في هذه السورة الكريمة، فأرجو ألا يظن أحد أنني قد أتيت على كل ما فيها من أسرار؛ فإنه لا يزال فيها الكثير مما أجهله، إذا ما قيس بالقليل، الذي أزعم أنني أعلمه، فما يعلم أسرار كلمات ربك إلا هو، سبحانه وتعالى أن يحيط بهذه الأسرار مخلوق من مخلوقاته. فتبارك من أودع كلامه هذه الأسرار، التي هي أجل وأعظم من أن تدركها العقول، فإن ما ظهر لنا منها بالنسبة إلى ما خفي يسيرٌ يسير.. والحمد لله رب العالمين !
الأستاذة: رفاه محمد علي زيتوني
مدرسة لغة عربية- حلب
===============
من أسرار الإعجاز البياني في القرآن
إعداد المهندس محمد شملول
مهندس مدني وكاتب إسلامي مصري
هناك من العلماء من يرى أن القرآن لا يحتاج إلى تفسير إلا في بعض الألفاظ الغريبة على القارئ وهذا يستدعي توضيحاً له أو تقريباً. وإلا في بعض آيات الأحكام والمجملات المبينة بالسنة وما عدا ذلك لا يحتاج إلى تفسير ولا إلى بيان أو توضيح.
ويستدل أصحاب هذا الرأي بآيات القرآن الكريم التي تدل على أنه كتاب مبين وأن آياته بينات. وأنه أنزل ليبين للناس ما اختلفوا فيه.
فكيف يحتاج هو إلى بيان وهو في حد ذاته بيان؟(١) قال تعالى:
(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين)[المائدة: ١٥].
وقال تعالى :(طس تلك آيات الكتاب وقرآن مبين)[الحجر: ١].
وقال تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر)[القمر: ١٧].
ويقول ابن كثير في تفسيره: فإن قال قائل فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر.
فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له. وإذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة.
إن القرآن يشرح ذلك بوضوح (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)[النساء: ٨٢].


الصفحة التالية
Icon