ولعلّ الأصل في هذا كله - أخي الكريم - أن جواب الشرط لا يتمّ المشروط دونه، فإذا حُذف كان أهول وأعظم للكلام، فيكون إضمار الجواب في مواضعه أحسن من إظهاره.
ثم أنَّى للّغة نفسها أن تصف الجنة، وهي التي " فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " ؟ ولذلك يقول الدكتور فاضل السامرائي في بيانه لآية الزمر ما معناه: أنه عندما حذف جواب الشرط هنا، كان في ذلك إشارة خفيّة إلى أن اللغة نفسها لا يمكنها أن تصف ما فيها من نعيم ".
هذا ما قاله الأخ الفاضل تعقيبًا على ما قلته في الفقرة الثانية من هذا المقال، وقد كفاني الرد عليه أخ فاضل آخر، تجدون ردَّه على الرابط المذكور. وفيما ذكرته كفاية لمن أراد الهداية، نسأله سبحانه أن يجعلنا من الذين يفقهون كلامه، ويدركون أسرار بيانه، ولا يقولون فيه إلا صوابًا، والحمد لله رب العالمين !
محمد إسماعيل عتوك
==============
الإعجاز البياني في سورة يوسف
محمود ياسر الأقرع
يقول تعالى:(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) الآية الأولى من سورة يوسف.
تفتتح سورة يوسف بالحروف المقطعة، شأنها في ذلك شأن بعض السور في القرآن الكريم. وقد ذهب مفسّرو القرآن ودارسوه في تأويل هذه الحروف والبحث عن مدلولاتها مذاهب شتى، على حين ظن فيها المستشرقون والساعون إلى الطعن في كتاب الله مجالاً واسعاً للنقض والتشكيك.
ولعل أبرز ما قيل في تأويل هذه الحروف إنها إشارة إلى المادة الأولية التي تصنع منها الكلمات العربية، والقرآن أنزل عربياً، وما دام الأمر كذلك أي أن المادة الأولية لصناعة النص موجودة " فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ". البقرة. الآية (٢٣).
ولذلك فإن ورود الحروف المقطعة في معظم السور التي بُدِئت بهذه الحروف، جاء مقترناً بذكر القرآن الكريم كمثل قوله تعالى في سورة البقرة :( الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ). وفي سورة يونس :(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ). وفي سورة هود: (الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ). وهكذا في معظم السور التي استهلت بالحروف المقطعة.
في أول هذه السورة، سورة يوسف، يصف الله تعالى القرآن بـ " الكتاب المبين" (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ)، والمبين لغة من: أبان، أي أظهر وأوضح. ضدها أخفى وستر (لسان العرب م١٣/ص٦٧) ووصف القرآن في مطلع سورة يوسف بـ ( المبين ) أمر في غاية الدّقة ومنتهى البلاغة في علم البلاغة هنالك ما يسميه البلاغيون ( براعة الاستهلال ) وهو أن يذكر الإنسان في أوّل كلامه ما يشير إلى غرضه من الكلام ليكون ابتداء كلامه دالاً على انتهائه.
وقد جاء وصف الكتاب بـ"المبين" في مطلع سورة يوسف إشارة إلى أن قصة يوسف ( موضوع السورة ) تقوم على مبدأ الإبانة، والإظهار، والكشف. وهذا معناه وجود أمر خفيٍّ غير ظاهر ولا مكشوف سيزول عنه ستار الغموض ليبدو ويُستحضر من التغييب ليكون حاضراً بادياً للعيان.
وسنعرض أحداث قصة سيدنا يوسف ( عليه السلام ) في مراحلها المختلفة ومواقفها المتباينة حتى نتبيّن قضية (الإخفاء والإبانة) التي يقوم عليها البناء القصصي في سورة يوسف (عليه السلام ) والتي أشارت إليها، في براعة ودقة، كلمة ( المبين ) التي جاءت في مطلع السورة.
- يتفق المفسّرون على أن سبب نزول سورة يوسف، هو طلب اليهود من الرسول ( ﷺ ) أن يحدثهم بخبر يوسف عليه السلام، وهم يعلمون أن رسول الله ( ﷺ ) أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب ولا يعلم من أمر يوسف شيئاً. إذاً فالأمر خفيٌّ عليه مستور عنه، وجاءت السورة كشفاً وتبياناً لما خفي على رسول الله من أمر يوسف (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)وفي قوله تعالى ( لمن الغافلين ) جاء التوكيد باللام ليدل على تأكيد غياب هذا الأمر عن رسوله كلّياً، فلم يقل الله سبحانه ( لمن الجاهلين ) لأنني قد أجهل الأمر وأكون قد سمعت به، فأنا أسمع مثلاً عن علم الذرة لكنني أجهله، أما أن أكون غافلاً عنه، فمعنى ذلك أنه لم يخطر في بالي مطلقاً فالغفلة عن الأمر أشد تغييباً له من الجهل به.
لذا فإن رسول الله كان ( غافلاً ) عن أمر يوسف تماماً، وهنا عندما تأتي السورة بقصة يوسف على ما جاءت عليه من التفصيل والدقة فإن ذلك معناه أن هذا الكلام ليس من النبي وإنما هو وحي من الله (بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ). إذاً فالكتاب المبين سيُظهر ما خفي عن النبي (ص) ويقصّ عليه قصة يوسف عليه السلام.