وفي قوله تعالى:" وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا " إشارة إلى تمكُّن أصحابها من جني ثمارها، وتناول قطوفها؛ إذ أصبحت ناضجة الثمار، دانية القطوف، آمنة من تعرضها للآفات، التي تفسد الزهر، وتغتال الثمر. فإذا اجتاحتها آفة- وهي على تلك الحال من الجمال والنضارة- كان ذلك أوجع، وأفجع لأهلها.
وقوله تعالى:" أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا " يراد به: الإبهام. والمعنى: إذا أخذت الأرض زخرفها، وأخذ أهلها الأمن، أتاها أمرنا- ليلاً أو نهارًا- وهم لا يعلمون. أي: أتاها أمرنا فجأة. فهذا إبهام؛ لأن الشك مُحَال على الله تعالى. وفي ذلك إشارة إلى أنه، لا فرق في إتيان العذاب بين زمن غفلتهم، وزمن يقظتهم؛ إذ لا يمنع منه مانع، ولا يدفع عنه دافع.. روي عن قتادة أنه قال:" إن المتشبِّث بالدنيا يأتيه أمرُ الله وعذابُه أغفَلَ ما يكون ".
وقوله تعالى:" فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا " المراد به: فجعلنا نباتها. أو زرعها تشبيهًا بما حُصِد من الزرع في قطعه واستئصاله؛ لأن الحصيد في الأصل هو ما حُصِد من الزروع بعد نضجها. ولم يؤنث؛ لأنه على وزن ( فعيل )، بمعنى:( مفعول ). أي: محصودة، في غير إبان حصادها، على سبيل الإفساد.
وقوله تعالى:" كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ "، قراءة العامة: تَغْنَ، بالتاء، وقرأ قتادة: يَغْنَ، بالياء، ذهب به إلى الزخرف. يعني: فكما يهلك هذا الزرع هكذا.. كذلك زينة الحياة الدنيا، ومتاعها.
والأمس: مَثلٌ في الوقت القريب؛ كأنه قيل: لم تغن آنفًا. أي: لم تلبَث على حال من الاستقرار والثبات. وهو من قولهم: غَنِيَ في مكان كذا: إذا طال مَقامُه فيه، مستغنيًا به عن غيره.
والمغاني جمع مَغْنَى، وهي المنازل، التي يَغنَى أهلها بالإقامة فيها، ويستغنون بها عن غيرها. ولإفادة هذا المعنى، جيء هنا بالفعل " تَغْنَ " منفيًا بـ" لَمْ "؛ كما جيء به في قوله تعالى:" الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا "(الأعراف: ٩٢)، إخبارًا عن المهلكين من كفار مدين وثمود.
ومن الملاحظ أن هذا الفعل" يَغْنَى " المنفي بـ" لَمْ "، لم يأت في البيان القرآني إلا في سياق ديار مدين، وثمود، ومثل الحياة الدنيا في أربع آيات؛ لأن سياقها يقتضيه هو دون غيره؛ فكأن القرآن لا يرى أيَّ مَقام في الدنيا، يمكن أن يُغني، أو يُسْتغنَى به عن الآخرة.
وإنما غرَّ هؤلاء القوم الكفرة مَقامُهم في الحياة الدنيا، فظنوا واهمين أنه يغنيهم عن الآخرة، فأخذتهم الصيحة؛ والرجفة، فأصبحوا في ديارهم جاثمين " كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا "؛ كما غرَّ الأرضَ ما اتخذته من زخرف النبات، وزينته، وظن أهلها أنهم متمكنون منها، وقادرون على جني ثمارها، أتاها أمر الله تعالى بغتة، فجعلها صعيدًا " كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ".
وفي هذه المواضع لا يمكن أن يؤدِّي أيَّ فعل معنى﴿ غنِيَ ﴾، بما يفيد من وهم الغنى، والاستغناء فيما يظنه الإنسان﴿ مَغْنًى ﴾؛ إذ ليس من شأن الدنيا الفانية أن يكون فيها﴿ مَغْنًى ﴾، يغني الإنسان بالاستقرار فيه، إلا غرورًا ووهمًا.
وفي إسناد الاستقرار المفهوم من قوله تعالى:" كَأَنْ لَمْ تَغْنَ " إلى الأرض، مع أنه لأهلها- كما يشير إليه قوله تعالى في آية الأعراف:" كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا "- إشارة إلى أنها، بما لبسها من حياة، وما نبض في عروقها وشرايينها من دماء هذه الحياة، وما تزينت به من حُللٍ وحِلًى، قد أصبحت كائنًا حيًّا، مستغنيًّا بما اجتمع له من هذا المتاع والزخرف.
وقد جعل الله تعالى إهلاك المهلكين حصادًا عقوبة لهم؛ لأنهم ظلموا أنفسهم، فقال سبحانه:
"ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ "(هود: ١٠٠).
أي: بعضها باق، وبعضها عافي الأثر؛ كالزرع بعضه قائمٌ على ساقه، وبعضه حصيدٌ.
وجاء قوله تعالى:" كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " تذييلاً جامعًا لما قبله. أي: مثل هذا التفصيل، الذي فصلنا به هذا المَثل، نفصل الآيات الدالة على عموم العلم والقدرة وإتقان الصنع. فهذه آية من الآيات المبينة، وهي واحدة من عموم هذه الآيات.
واللام في قوله:" لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " للتعليل. أي: نفصل الآيات لأجلهم، لا لأجل غيرهم. وإنما خصهم بالذكر؛ لأنهم أهل التمييز بين الأمور، والفحص عن حقائق ما يعرض من الشبه في الصدور. والتفكُّر هو التأمل والنظر، وهو مشتقٌّ من الفكر، وفيه تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بالآيات ليسوا من أهل التفكُّر، ولا كان تفصيل الآيات لأجلهم.
اللهم اجعلنا من القوم الذين يتفكرون في آياتك البينات، ويعتبرون، واجعلنا من الذين يفقهون أسرار بيانك، ويعقلون أمثالك، والحمد لله رب العالمين!
بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك
=============
العلاج بسماع القرآن
قصة حدثت معي