واختلف علماء اللغة والتفسير في قوله تعالى:" لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا "؛ هل يقتضي أن هذا الرجل المقدر في هذه الأحوال، إذا أخرج يده من كمِّه، لم يرها البتة. أو رآها بعد عسر وشدة ؟ فقالت فرقة: لم يرها البتة؛ وذلك أن ﴿ كاد ﴾ معناها: قارب؛ فكأنه قال:" إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ "، لم يقارب رؤيتها. وهذا يقتضي نفي الرؤية جملة. وقالت فرقة: بل رآها بعد عسر وشدة، وكاد أن لا يراها. ووجه ذلك: أن ﴿ كاد ﴾، إذا صحبها حرف النفي، وجب الفعل الذي بعدها. وإذا لم يصحبها، انتفى ذلك الفعل.
وهذا القول يكون لازمًا، إذا كان حرف النفي بعد ﴿ كاد ﴾ داخلاً على الفعل، الذي بعدها. تقول: كاد زيد يقوم، فالقيام منفي. فإذا قلت: كاد زيد أن لا يقوم، فالقيام واجب واقع. وتقول: كاد النعام يطير. فهذا يقتضي نفي الطيران عنه. فإذا قلت: كاد النعام أن لا يطير، وجب الطيران له.
أما إذا كان حرف النفي مع ﴿ كاد ﴾، فالأمر محتمل، مرة يوجب الفعل، ومرة ينفيه. تقول: المريض لا يكاد يسكن. فهذا كلام صحيح، تضمن نفي السكون. وتقول: رجل متكلم لا يكاد يسكن. فهذا كلام صحيح، يتضمن إيجاب السكون بعد جهد. ويشهد لذلك قوله تعالى:"أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ "(الزخرف: ٥٢). أي: لا يكاد يظهر كلامه للثغته بالجمرة. التي تناولها في صغره. وقول تأبط شرًّا:
فأُبْتُ إلى فَهْمٍ، وما كِدْتُ آيِبًا | وكم مثلها فارقتها وهي تصفر |
ومما يحمل على الاحتمالين قوله تعالى:"فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ "(البقرة: ٧١). أي: وما كادوا يذبحون. فكنَّى عن الذبح بالفعل؛ لأن الفعل يكنَى به عن كل فعل. والنفي مع ﴿ كاد ﴾- هنا- يتضمن وجوب الذبح بعد جهد، ويتضمن نفيه البتة. وبيان ذلك أن جملة:" وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ " تحتمل الحال والاستئناف. والأول أظهر إشارة إلى أن مماطلتهم قارنت أول أزمنة الذبح.. وعلى الاستئناف يصح اختلاف الزمنين: زمان نفي المقاربة، وزمان الذبح؛ إذ المعنى: وما قاربوا ذبحها قبل ذلك. أي: وقع الذبح بعد أن نفى مقاربته. فالمعنى: أنهم تعسروا في ذبحها، ثم ذبحوها بعد ذلك. قيل: والسبب الذي لأجله ما كادوا يذبحون هو: إمَّا غلاء ثمنها، وإمَّا خوف فضيحة القاتل، وإمَّا قلة انقياد وتعنت على الأنبياء- عليهم السلام- على ما عهد منهم.
ونحو ذلك قوله تعالى في هذه الآية:" لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا "، فإنه نفيٌ مع " يَكَدْ " يتضمن- في أحد التأويلين- نفي الرؤية. ويتضمن- في الاحتمال الآخر وجوب الرؤية بعد عسر وشدة؛ فإن الكائن في ظلمات البحر اللجي، التي ما زال فيها شيء من ضوء، لا يرى يده إلا بصعوبة. لكن إذا غاص إلى الأعماق، التي تغرق في الظلام الشديد، ومد يده أمام عينيه، فإنه لا يراها أبداً. ولهذا، ونحوه قال سيبويه رحمه الله: إن أفعال المقاربة لها نحو آخر. بمعنى: أنها دقيقة التصرف. أما قول ابن الأنباري وغيره ممن اعتقد زيادة " يَكَدْ "، وأن المعنى: لم يرها، فليس بصحيح.
ثم يختم الله تبارك وتعالى الآية الكريمةبهذه الحقيقة المعنوية الكبرى، فيقول سبحانه:" وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ". ثم تفاجئنا البحوث العلمية أخيرًا بواقع مادي ملموس لهذه الحقيقة المعنوية، فقد كان العلماء إلى عهد قريب جدًا لا يتصورون إمكانية وجود حياة في أغوار المحيطات العميقة، للظلمة التامة فيها، وللبرودة الشديدة لمائها، وللضغوط الهائلة الواقعة عليها، وللملوحة المرتفعة أحيانا لذلك الماء ؛ ولكن بعد تطوير غوَّاصات خاصة لدراسة تلك الأعماق، فوجيء دارسو الأحياء البحرية بوجود بلايين الكائنات الحيَّة، التي تنتشر في تلك الظلمة الحالكة، وقد زودها خالقها بوسائل إنارة ذاتية في صميم بنائها الجسدي تعرف باسم الإنارة الحيوية.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا : من غير الله الخالق يمكنه أن يعطي كل نوع من أنواع تلك الأحياء البحرية العميقة، هذا النور الذاتي؟ وهنا يتضح البعد المادي الملموس لهذا النص القرآني المعجز، كما يتضح بعده المعنوي الرفيع :" وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ".
فمن لم ينوِّر الله تعالى قلبه بنوره، الذي أضاء الوجود كله، ويهديه إليه، فهو باق في ظلمات الجهل والغيِّ والضلال، لا يهتدي أبدًا. وكيف يهتدي، وهو لا يملك شيئًا من النور، الذي هو سبب الهداية ؟
ولتأكيد هذا المعنى جيء بعد" مَا " النافية بـ" مِن "، التي يدل وجودها على استغراق النفي وشموله لكل جزء من أجزاء النور. ولو قيل:" فَمَا لَهُ نُّورٍ "، بدون " مِن "، ما أفاد هذا المعنى، الذي دل عليه وجودها.
نسأل الله تعالى أن ينوِّر بصائرنا وأبصارنا بنور وجه، الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
===============
من أسرار البيان في أمثال القرآن: مثل المنافقين
بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك