إن عمل البصيرة الإيمانية في قلب المؤمن كعمل كشاف ضوء منير في وسط ظلمة حالكة، فهي التي تكشف الأشياء على حقيقتها فيراها المؤمن كما هي، ولا يراها كما زينت في الدنيا ولا كما زينها الشيطان للغاوين ولا كما زينها هوى النفس في الأنفس الضعيفة.
يقول الله _سبحانه_: " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله.." (الزمر: ٢٢)
- ويقول سبحانه: " أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها" ( الأنعام١٢٢).
يقول الإمام ابن القيم: " أصل كل خير للعبد - بل لكل حي ناطق - كمال حياته ونوره، فالحياة والنور مادة كل خير.. فبالحياة تكون قوته وسمعه وبصره وحياؤه وعفته.. كذلك إذا قوي نوره وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه فاستبان حسن الحسن بنوره وآثره بحياته وكذلك قبح القبيح " (إغاثة اللهفان ١/٢٤). فما يكاد نور القرآن ونور الإيمان يجتمعان حتى لكأن النور الهادئ الوضيء يفيض فيغمر حياة المرء كلها ويفيض على المشاعر والجوارح، وينسكب في الحنايا والجوانح، تعانق النور، وتشرفه العيون والبصائر، فيشف القلب الطيب الرقراق، ويتجرد من كثافته ويتحرر من قيد العبودية غير عبودية الله الكبير المتعال، فإذا القلب المؤمن المبصر غاية في القوة والثبات وغاية في الطاعة والإخبات وغاية في التضحية والبذل بكل المتاع الزائل.
قال ابن القيم - رحمه الله - قال الله _تعالى_: " إن في ذلك لآيات للمتوسمين "
قال مجاهد يعني للمتفرسين.
وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله "، والتوسم التفرس ولهذا خص الله بالآيات والانتفاع بها هؤلاء... وبعث الله الرسل مذكرين ومنبهين ومكملين لما عند الناس من استعداد لقبول الحق بنور الوحي والإيمان فيضاف إلى ذلك نور الفراسة فيصير نوراً على نور فتقوى البصيرة " ( مدارج السالكين ١/١١٠)
المصادر:
- كتاب القرآن وعلم النفس-د. محمد عثمان نجاتى
-كتاب مقومات الوعي والبصيرة
-مجلة النفس المطمئنة- العدد ٥٣- مقال بين البصر والبصيرة
د. الزين عباس عمارة -أستاذ الطب النفسي
-موقع المسلم -البصيرة الإيمانية وإيجابية السلوك الشخصى -خالد السيد روشه
===============
الحية والثعبان... إعجاز بياني في قصة موسى عليه السلام
بقلم المهندس عبد الدائم الكحيل
لفت انتباهي إلى هذا الموضوع أحد الإخوة القراء من خلال سؤال عن سر مجيء كلمة (ثعبان) تارة وكلمة (حية) تارة أخرى وذلك في سياق قصة سيدنا موسى عليه السلام. وقد يظن بعض القراء أن المعنى واحد، وأن هذا الأمر من باب التنويع وشد انتباه القارئ فقط....
ولكن وبعد بحث في هذا الموضوع ظهرت لي حكمة بيانية رائعة تثبت أن كل كلمة في القرآن إنما تأتي في الموضع المناسب، ولا يمكن أبداً إبدالها كلمة أخرى، وهذا من الإعجاز البياني في القرآن الكريم.
ولكي نوضح الحكمة من تعدد الكلمات عندما نبحث عن قصة سيدنا موسى عليه السلام مع فرعون لنجد أنها تكررت في مناسبات كثيرة، ولكن العصا ذُكرت في ثلاثة مراحل من هذه القصة:
١- عندما كان موسى سائراً بأهله ليلاً فأبصر ناراً وجاء ليستأنس بها فناداه الله أن يلقي عصاه.
٢- عندما ذهب موسى إلى فرعون فطلب منه فرعون الدليل على صدق رسالته من الله تعالى فألقى موسى عصاه.
٣- عندما اجتمع السَّحَرة وألقوا حبالهم وعصيّهم وسحروا أعين الناس، فألقى موسى عصاه.
هذه هي المواطن الثلاثة حيث يلقي فيها موسى العصا في قصته مع فرعون. ولكن كيف تناول البيان الإلهي هذه القصة وكيف عبّر عنها، وهل هنالك أي تناقض أو اختلاف أو عشوائية في استخدام الكلمات القرآنية؟
الموقف الأول
في الموقف الأول نجد عودة سيدنا موسى إلى مصر بعد أن خرج منها، وفي طريق العودة ليلاً أبصر ناراً فأراد أن يقترب منها ليستأنس فناداه الله تعالى، وأمره أن يلقي عصاه، فإذاها تتحول إلى حيّة حقيقية تهتز وتتحرك وتسعى، فخاف منها، فأمره الله ألا يخاف وأن هذه المعجزة هي وسيلة لإثبات صدق رسالته أمام فرعون.
ولو بحثنا عن الآيات التي تحدثت عن هذا الموقف، نجد العديد من الآيات وفي آية واحدة منها ذكرت الحيّة، يقول تعالى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى *قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌتَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى) [طه: ١٧-٢١].
الموقف الثاني
أما الموقف فيتمثل بقدوم موسى عليه السلام إلى فرعون ومحاولة إقناعه بوجود الله تعالى، وعندما طلب فرعون الدليل المادي على صدق موسى، ألقى عصاه فإذا بها تتحول إلى ثعبان مبين. ولو بحثنا عن الآيات التي تناولت هذا الموقف نجد عدة آيات، ولكن الثعبان ذُكر مرتين فقط في قوله تعالى: