فأنت ترى أن تقديم الصدقة، والمناسب للسياق الذي وردت فيه الآية وللجو الذي تردد فيه ذكر الأموال والانشغال بها، والتوصية من المنافقين بعدم إنفاقها في سبيل الخير.
وقد يقول: ولم قال: (فأصدق) ولم يقلك (فأتصدق) الذي هو الأصل؟
والجواب: أن هناك أكثر من سبب يدعو إلى هذا الاختيار.
منها أن مقاطع (فأتصدق) أكثر من مقاطع (فأصدق) فإن مقاطع (فأتصدق) ستة ومقاطع (فأصدق) خمسة:
فَ + أَ + تَ +صد +دَ +قَ = ستة مقاطع.
فَ +أص +دَ +قَ = خمسة مقاطع.
وهو طلب التأخير إلى أجل قريب فاختار اللفظة التي هي أقصر لتناسب قصر المدة.
ثم إن في (فأصّدّق) تضعيفين أحدهما في الصاد، والآخر في الدال في حين أن في (فأتصدق) تضعيفاً واحداً موطنه الدال، والتضعيف مما يدل على المبالغة والتكثير، ولذا كان في قوله: (فأصدق) من المبالغة والتكثير في الصدقة ما ليس في (فأتصدق) فدل بذلك أنه أراد أجلاً قريباً ليكثر من الصدقة ويبالغ فيها.
فهذا البناء أفاد معنيين:
الأول: قصر المدة وذلك لأنه طلب التأخير مدة قصيرة.
والآخر: هو الإكثار من الصدقة في هذه المدة القصيرة فكان ذلك أنسب.
من هذا ترى أنه وضع كل تعبير في مكانه الذي هو أليق، وأعطى كلاً منهما حقه الذي هو له. فانظر كيف جمع بين معنيين التعليل والشرط.
وقدم الصدقة مناسبة للمقام وأعطى الصلاح أهمية تفوق الصدقة، وجاء لفظة تدل على قصر المدة والإكثار من الصدقة فجمعت معنيين مناسبة للمقام، كل ذلك بأوجز عبارة وأبلغها والله أعلم.
[١] الكشاف ٣/٢٣٥ [٢] روح المعاني ٢٨/١١٧ [٣] تفسير البيضاوي ٧٣٨ [٤] الكشاف ٣/٢٣٥
[٥] روح المعاني ٢٨/١١٧[٦] البحر المحيط ٨/٢٧٤[٧] انظر معاني النحو ٢/٦١٩ وما بعدها.
[٨] البحر المحيط ٨/٢٧٥، وانظر الكشاف ٣/٢٣٦ فتح القدير ٥/٢٢٧ [٩] معاني النحو ٣/٢٥٩
===================
لمسات بيانية من سورتي المؤمنون والمعارج
بقلم الدكتور فاضل السامرائي
من سورة (المؤمنون)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴿١﴾ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴿٢﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴿٣﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴿٤﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴿٥﴾ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴿٦﴾ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴿٧﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴿٨﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿٩﴾ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ﴿١٠﴾ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة المؤمنون].
من سورة (المعارج)
(إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴿١٩﴾ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ﴿٢٠﴾ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴿٢١﴾ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴿٢٢﴾ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴿٢٣﴾ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ ﴿٢٤﴾ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴿٢٥﴾ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴿٢٦﴾ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ﴿٢٧﴾ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ﴿٢٨﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴿٢٩﴾ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴿٣٠﴾ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴿٣١﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴿٣٢﴾ وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ﴿٣٣﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴿٣٤﴾ أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ )[سورة المعارج].
هناك تشابه كبير بين النصين، كما أن هناك اختلافاً بينهما كما هو ظاهر:
١. فقد قال في سورة المؤمنون :(الذين هم في صلاتهم خاشعون ).
وقال في سورة المعارج:(الذين هم على صلاتهم دائمون).
٢ـ وقال في سورة المؤمنون: (والذين هم عن اللغو معرضون).
ولم يذكر ذلك في سورة المعارج.
٣ـ وقال في سورة المؤمنون: (والذين هم للزكاة فاعلون).
وقال في سورة المعارج: (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم)
٤ـ وقال في سورة المعارج: (والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون).
ولم يذكر مثل ذلك في آيات المؤمنون.
٥ـ وقال في سورة المعارج: (والذين هم بشهادتهم قائمون)
ولم يذكر نحو ذلك في سورة المؤمنون.
٦ـ وقال في سورة المؤمنون: (والذين هم على صلواتهم يحافظون)، بالجمع.
وقال في سورة المعارج: (والذين هم على صلاتهم يحافظون)، بالإفراد
٧ـ وقال في سورة المؤمنون: (أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس).
وقال في سورة المعارج: (أولئك في جنات مكرمون)
٨ـ قال في سورة المؤمنون: (هم فيها خالدون).
ولم يقل مثل ذلك في سورة المعارج
فما سبب ذلك؟
نعود إلى هذين النصين، لنتلمس سر التعبير في كل واحد منهما.


الصفحة التالية
Icon