فأنت ترى أنه اختار كلمة (الدين) لتقع في موقعها المناسب لها تماماً. ثم قال بعدها: "أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (٨)" وأحكم الحاكمين يحتمل أن يكون معناه: أعظم ذوي الحكمة وأحسنهم تدبيراً، ويحتمل أن يكون معناه أقضى القاضين، لأن (حكم) يحتمل أن يكون من الحكمة، ويحتمل أن يكون من القضاء وهو الفصل في المحاكم.
وعلى الوجه الأول يكون المعنى: أليس الذي فعل ذلك بأحكم الحاكمين صنيعاً وتدبيراً وأن حكمته بالغة لا حدود لها. وإذا تبيّن أن الله سبحانه أحكم الحاكمين ـ وهو بيّن ـ تعيّنت الإعادة والجزاء لأن حكمته تأبى أن يترك الإنسان سدى ولا يحاسب على أعماله، فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن لا يُجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته؟ وهل ذلك إلا قدح في حكمه وحكمته ٢٤
وعلى الوجه الثاني يكون المعنى: أليس الله بأقضى القاضين ٢٥ فيحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، كما قال تعالى: "قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ "(٤٦) الزمر
فانظر قوة ارتباط هذه الآية بما قبلها على كلا الوجهين، فإن حكمته تقتضي الإعادة والجزاء. والجزاء والفصل بين الخلائق يقتضي وجود قاضٍ، بل يقتضي وجود أقضى القاضين.
فجمع بهذه العبارة معنيين: القضاء والحكمة بل لقد جمع معاني عدة بهذا التعبير، إذ كل لفظ من (أحكم الحاكمين) يحتمل أن يكون بمعنى القضاء والحكمة فيكون قد جمع أربعة معان كلها مرادة وهي (أحكم الحاكمين) بمعنى أكثرهم حكمة و(أقضى الحكماء) و(أقضى القضاة) و(أحكم القضاة).
فانظر كيف جمع أربعة معان تُؤدى بأربع عبارات في عبارة واحدة موجزة ولو قال (أقضى القاضين) لدلت على معنى واحد.
ثم انظر كيف جعل ذلك بأسلوب الاستفهام التقريري ولم يجعله بالأسلوب الخبري فهو لم يقل (إن الله أحكم الحاكمين) ولا نحو ذلك، وإنما قرر المخاطب ليقوله بنفسه وليشترك في إصدار الحكم فيقول: بلى (وأنا على ذلكم من الشاهدين)
ثم انظر إلى ارتباط خاتمة السورة بفاتحتها، فإن فاتحة السورة في ذكر مواطن الرسالات العظمى وارتباطها بخاتمتها واضح بيّن، فإن الذي أنزل هذه الشرائع العظيمة وما تضمنته من أحكام سامية هو أحكم الحاكمين.
ثم انظر إلى التنسيق الجميل في اختيار خواتم الآي، فإن خاتمة كل آية اختيرت لتجمع عدة معان في آن واحد. فاختيرت (الأمين) لتجمع معنيي الأمن والأمانة، و(أسفل سافلين) لتجمع معنى أرذل العمر ودركات جهنم السفلى. و(غير ممنون) لتجمع معنى غير منقطع ولا منغّص بالمِنّة عليهم، وكلمة (الدين) لتجمع الجزاء والدين، و(أحكم الحاكمين) لنجمع الحكمة والقضاء.
فانظر إلى هذا الدقة في الاختيار وهذا الحسن في التنسيق. أليس الذي قال ذلك بأحكم الحاكمين؟ بلى وأنا على ذلك من الشاهدين.
** التعبير القرآني : من صفحة ٣٣٧ إلى صفحة ٣٤٨.
المراجع:
١ ـ انظر ملاك التأويل ٢ / ٨٨٨ ٢ ـ التفسير الكبير ٣٢/٩، روح المعاني ٣٠/١٧٤ ٣ ـ تفسير ابن كثير ٤ / ٥٢٦ ٤ ـ التبيان ٣٥-٥٥ ٥ ـ في ظلال القرآن ٣٠/١٩٠ ٦ ـ فتح القدير ٣/٤٦٣، روح المعاني ١٨/٢٢-٢٣ ٧ ـ روح المعاني ٣٠/١٧٣ ٨ ـ نفس المصدر والصفحة ٩ ـ روح المعاني ٣٠/١٧٣، البحر المحيط ٨/٤٩٠، الكشاف ٣/٣٤٨ ١٠ ـ روح المعاني ٣٠/١٧٣ ١١ ـ البحر المحيط ٨/٤٩٠، الكشاف ٣/٣٤٨ ١٢ ـ التبيان في أقسام القرآن ٥٥ ١٣ ـ التبيان في أقسام القرآن ٥٦ ١٤ ـ روح المعاني ٣٠/١٧٥، البحر المحيط ٨/٤٩٠ ١٥ ـ روح المعاني ٣٠/١٧٦، البحر المحيط ٨/٤٩٠ ١٦ ـ الكشاف ٣/٣٤٨ ١٧ ـ البحر المحيط ٨/٤٩٠ ١٨ ـ في ظلال القرآن ٣٠/١٩٤ ١٩ ـ التبيان ٩١ ٢٠ ـ البحر المحيط ٨/٤٩٠، روح المعاني ٣٠/١٧٦ ٢١ ـ التفسير الكبير ٣٢/١١ ٢٢ ـ الكشاف ٣/٣٤٩، التفسير الكبير ٣٢/١٢ ٢٣ ـ التبيان ٦١٢٤ ـ انظر التبيان ٣٣ وما بعدها، التفسير الكبير ٣٢/١٢ ٢٥ ـ روح المعاني ٣٠/١٧٧، مجمع البيان ١٠/٥١٢
==============
لمسات بيانية ـ سورة الناس
ندوة الدكتور فاضل السامرائي
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴿١﴾ مَلِكِ النَّاسِ ﴿٢﴾ إِلَهِ النَّاسِ ﴿٣﴾ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ﴿٤﴾ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ﴿٥﴾ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ ﴿٦﴾
* المعوذتان هما سورتان في القرآن الكريم، جمعتا الاستعاذة من الشرور كلها الظاهرة والخفية، الواقعة على الإنسان من الخارج والتي تصدر منه من الداخل.
* فسورة الفلق تضمنت الاستعاذة من الشرور الظاهرة والخفية الواقعة على الإنسان من الخارج ولا يمكن له دفعها، ولا سبيل لذلك إلا بالصبر، وهذه الأمور إذا وقع فيها الإنسان وصبر سجل ذلك في صحيفة حسناته لأن الله تعالى يجزي الصابرين.
والشر في سورة الفلق مما لا يدخل تحت التكليف ولا يطلب منه الكف عنه لأنه ليس من كسبه فهو غير محاسب عليه
* أما سورة الناس فهي سورة الاستعاذة من شرور الإنسان الداخلية (النابعة من نفسه) وهي التي قد تقع على صاحبها (القارئ )، وقد تقع على غيره، وهي التي يستطيع الإنسان أن يدفعها ويتجنب ظلم النفس والآخرين