واسمح لي عزيزي القارئ أن أقف بك على جملة قرآنية من الآية هي قوله تعالى :( ولا طائر يطير بجناحيه ) لننظر في هذه الإضافة الاحترازية، وهي قوله تعالى ( يطير بجناحيه ). لقد مر عن هذه الجملة القرآنية كثير من المفسرين دون أن يتعرضوا لتفسيرها ولا بيان سبب ورودها، واجتهد بعضهم في بيان سببها فجاء بأقوال لا تصح. ومن هؤلاء إمام المفسرين ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ حيث يقول :" فإن قال قائل: فما وجه قوله ( ولا طائر يطير بجناحيه ) ؟ وهل يطير الطائر إلا بجناحيه ؟ فما في الخبر عن طيرانه بالجناحين من الفائدة ؟ ". ثم يبين أن ذكرها إنما جاء من قبيل " إرادة المبالغة جريا على قول العرب في خطابهم : كلّمْته بفمي و ضربته بيدي ". وأما القرطبي في تفسيره فبيّن أنها جاءت :" للتأكيد وإزالة الإبهام، فإنّ العرب تستعمل الطيران لغير الطائر : تقول للرجل : طِرْ في حاجتي ". ولا شك أن هذا التأويل بعيد.
ومع ذلك فإن وقوف الطبري عندها، وغيره ممن حاولوا النظر فيها ؛ لدليل على فطنتهم وسعة فهمهم وعمق نظرهم، وإن لم يدركوا سرها فإن ذلك لا ينقص بتاتا من قدرهم ولا يحط من مكانتهم ولا يهوّن من شأن علمهم، لأن علمها في الحقيقة يتجاوز عصرهم ويمتد وراء آفاق مدركاتهم.
نعرف عزيزي القارئ أن الطائر يتميز عن سائر الدواب بجناحيه الذين يمكنانه الطيران، فإذا ذكر الطائر تبادرت إلى الذهن صورته بجناحين اثنين مطويين أو منشورين، يخطر على الأرض أو يحلق في الفضاء. لذلك فإنّ ذكْر الطائر يغني عن ذكر جناحيه. فإذا ذكر الطائر وتلاه ذكر جناحيه فلا بد أن يكون وراء ذكرهما قصد مقصود وهدف منشود. فما هو القصد من ذكر الجناحين بعد ذكر الطائر في الآية السابقة ؟ لماذا قال تعالى ( ولا طائر) ولم يكتف بذكر الطائر بل جاء بعده بذكر صفته اللازمة قائلا ( يطير بجناحيه ) ؟
الجواب ـ والله أعلم ـ : لأن هناك ما يطير في الفضاء ويحلق في الأجواء ولكنه ليس أمما أمثالنا، وإنما هو شيء مختلف وصنع مختلف، لا يدركه الإنسان العربي القديم في عصره، ولا يعرف عنه شيئا. أما إنسان عصر العلم والتكنولوجيا وغزو الفضاء ؛ فإنه يعرفه تمام المعرفة، لأنه رآه بعينه وسمعه بأذنه، وشاهد فعله وأثره، وأدرك خيره وشره. ألا ترى عزيز القارئ كيف تحول الفضاء حول الأرض في هذا العصر إلى شبكة من الخطوط الملاحية التي تطير فيها الطائرات وتعبرها النفاثات محلقة في الفضاء، مختصرة مسافات الأرض، مختزلة أبعاد الزمان. ولكنها كلها تطير مدفوعة بقوة احتراق الوقود. فإذا لم تزود خزاناتها بالوقود النفاث ظلت جاثمة في أماكنها عاجزة عن الطيران. وإذا نفد وقودها وهي في الجو هوت ركاما وأمست حطاما. إن هذه الأجسام الطائرة في جو السماء لا تطير طيرانا ذاتيا بأجنحتها بل بقوة احتراق الوقود، فهل هي أمم أمثالنا ؟
تتضح حكمة الله تعالى هنا، ويبرز وجه الإعجاز البياني القرآني بذكر هذه العبارة التي استثنت من طيور السماء كل ما أخرجته مصانع الطائرات العسكرية والمدنية من وسائط النقل الجوي في هذا العصر. ولو لم تأت هذه العبارة الاحترازية الإعجازية ( يطير بجناحيه ) لكان لقائل أن يقول : إن القرآن لا يفرق بين الكائن الحي والجماد ولا بين الطائر الحقيقي والطائر الصناعي، إذ كيف تكون الطائرات النفاثة والمروحية وغيرها أمما أمثال البشر ؟؟ إن هذا لمحال.
لقد كان كافيا للعربي زمن نزول القرآن ليدرك المعنى أن تأتي الآية من غير هذه العبارة التي تساءل عن سر ذكرها المفسرون، ولكن القرآن لم ينزل للعرب فحسب، ولا لذلك الزمان وحده، وإنما نزل للعالمين وإلى يوم الدين. وصدق الله العظيم إذ يقول :( ما فرطنا في الكتاب من شيء ).
================
الإعجاز في القرآن الكريم
معنى الإعجاز ونشأته وأول من ألف فيه :
القرآن الكريم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم.
فالقرآن هو معجزة النبي ﷺ الخالدة.
وقد عرف العلماء المعجزة لغة : وهي إثبات العجز والضعف والتعجيز: التثبيط(١)
واصطلاحاً : أمر خارق للعادة، مقروناً بالتحدي سالم من المعارضة وهي: إما حسية أو عقلية.
وأكثر معجزات بني إسرائيل كانت حسية لانحصار تفكيرهم بالمادة وقلة بصيرتهم وأكثر معجزات هذه الأمة عقلية لفرط ذكائهم وكمال أفهامهم ولأن هذه الشريعة لما كانت باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة - خصت بالمعجزة العقلية الباقية - وهي القرآن ليراها ذوو البصائر. وإن معجزات الأنبياء انتهت بانقضاء أعصارهم فلم يشاهدها إلا من حضرها ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة فلا يمر عصر من العصور إلا ويظهر فيه شيء من إعجازاته و إخباراته مما يدل على صحة دعواه(٢).