الباب الأول(النظري) الطعن في القرآن : نشأته، أسبابه، مواجهته
الفصل الأول : تاريخ الطعن.
الفصل الثاني : أسباب الطعن في القرآن.
الفصل الثالث : مواجهة دعاوى الطعن في القرآن.
الفصل الأول : تاريخ الطعن في القرآن و الكتب المؤلفة فيه
وفيه عدة مباحث :
المبحث الأول : أول من تكلم فيه.
المبحث الثاني : أول من ألف فيه.
المبحث الثالث : اتجاهات العلماء في التأليف في هذا المجال.
المبحث الرابع : الكتب المؤلفة فيه.
المبحث الأول : أول من تكلم فيه
وجود الإشكال في فهم القرآن، والطعن فيه بسبب ذلك موجود منذ نزوله ؛ لأن القرآن ينقسم إلى أربعة أقسام : قسم لا يجهله أحد، وقسم تعرفه العرب من لغتها، وقسم يعرفه الراسخون في العلم، وقسم لا يعلمه إلا الله، كما ورد عن ابن عباس(٥٢).
وأقدم نص وجدتُ فيه حدوث الإشكال على الفهم، والطعن في القرآن، واتهامه بالتعارض مع الحقائق، هو حديث الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : لَمَّا قَدِمْتُ نَجْرَانَ سَأَلُونِي فَقَالُوا : إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ (يَا أُخْتَ هَارُونَ( وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ( ﷺ ) سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ :« إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ »(٥٣).
وهذا الطعن الذي ذكر في الحديث، مع أن النبي أجاب عليه، إلا أنه لا يزال يردد إلى يومنا هذا، كما سترى فيما سيأتي إن شاء الله.
وقد تكلم القرآن عن كثير من الطاعنين، وذكر طعوناتهم، ثم رد عليها ردا واضحا بينا مفحما ؛ فبعضهم ادعى أنه يستطيع أن يأتي بمثل القرآن (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا..(َ [الأنفال : ٣١] ؛ فتحداهم الله تعالى أن يأتوا بمثله فعجزوا، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا.
وبعضهم زعم أن هذه القرآن إنما هو من قصص الأولين وأساطير السابقين (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ( [النحل : ٢٤]، فرد الله عليهم أنه لا يعرف أن يقرأ ولا يكتب، فكيف ينقلها ؟‍!‍ ثم هذه الأساطير ليست خاصة بمحمد، بل هي كتب للجميع، فلماذا لا تحضرون لنا هذه الكتب التي نقل منها؟
وبعضهم قال : إنه تعلَّمه من غلام نصراني فقال الله تعالى :(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ([النحل : ١٠٣].
وهكذا كلما قالوا شُبْهَةً، وطعنوا طعنا، رد الله عليهم بحجة واضحة، وسيأتي مزيد بحث في هذا الموضوع في مبحث مستقل.
وحصل طعن في القرآن في عصر الصحابة ؛ ففي زمن عمر(كان في أجناد عمرو بن العاص ( رجل يقال له صبيغ(٥٤)، كان يسأل عن متشابه القرآن، فكان يقول : ما المرسلات عرفا، ما العاصفات عصفا. تشكيكا وتعنتا، فأرسل به عمرو ( إلى عمر (، فلما علم عمر بقدومه أمر رجلا أن يحضره وقال له : إن فاتك فعلت بك وفعلت. وكان عمر قد جهز له عراجين من نخل، فلما جاءه سأله عن أشياء ثم قال له : من أنت ؟ فقال : أنا عبد الله صبيغ. فقال : وأنا عبد الله عمر. فضربه حتى أدماه، ثم تركه حتى شفي، ثم ضربه حتى أدماه، ثم تركه حتى شفي، ثم ضربه حتى أدماه، ثم تركه حتى شفي، ثم أُحضر فقال صبيغ : يا أمير المؤمنين إن كنت تريد قتلي، فاقتلني قتلا جميلا، وإن كنت تريد أن تداويني، فقد والله برئتُ. فأرسله عمر إلى البصرة، وأمر واليها أبا موسى الأشعري بمنع الناس من مجالسته، فاشتد ذلك على الرجل، فأرسل أبو موسى إلى عمر أن الرجل حسنت توبته، فكتب عمر أن يأذن للناس بمجالسته، فلما خرجت الحرورية قيل لصبيغ : إنه قد خرج قوم يقولون كذا وكذا، وقد مات عمر. فقال : هيهات قد نفعني الله بموعظة العبد الصالح يعني عمر(٥٥).
و(أَخْرَجَ عَبْد بْن حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيق عَلِيّ بْن زَيْد، عَنْ أَبِي الضُّحَى، أَنَّ نَافعَ بْنَ الْأَزْرَق، وَعَطِيَّةَ أَتَيَا اِبْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَا : يَا اِبْنَ عَبَّاس، أَخْبِرْنَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ( [ المرسلات : ٣٥ ] وَقَوْله :(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ(
[ الزمر : ٣١ ] وَقَوْلهِ :(وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ( [ الانعام : ٢٣ ] وَقَوْلهِ :
(وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه َحَدِيثًا( [ النساء : ٤٢ ]. قَالَ : وَيْحَكَ يَا ابْنَ الْأَزْرَقِ، إِنَّهُ يَوْمٌ طَوِيلٌ وَفِيهِ مَوَاقِفُ، تَأْتِي عَلَيْهِمْ سَاعَةُ لَا يَنْطِقُونَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَخْتَصِمُونَ، ثُمَّ يَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ يَحْلِفُونَ وَيَجْحَدُونَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهمْ، وَتُؤْمَرُ جَوَارِحُهمْ، فَتَشْهَدُ عَلَى أَعْمَالِهْم بِمَا صَنَعُوا، ثُمَّ تَنْطِقُ أَلْسِنَتُهُمْ فَيَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا صَنَعُوا، وَذَلِكَ قَوْله :(وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه حَدِيثًا([ النساء : ٤٢ ]. وَرَوَى اِبْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : قُلْت٠ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ( [ المرسلات : ٣٥ ] ؟ فَقَالَ : إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ حَالَاتٌ وَتَارَاتٌ، فِي حَال لَا يَنْطِقُونَ وَفِي حَال يَنْطِقُونَ)(٥٦).
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ : إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ ؛ قَالَ (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ( [ المؤمنون : ١٠١ ] وقال :(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ( [ الصافات : ٢٧ ]، وقوله (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا(
[ النساء : ٤٢ ] (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ( [ الانعام : ٢٣ ] فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ ؟، وَقَالَ :(... أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا( [ النازعات : ٢٧ ] إِلَى قَوْلِهِ :(... دَحَاهَا(
[ النازعات : ٣٠ ] فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ الْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ :(... أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ....( [ فصلت : ٩ ] إِلَى قَوْلِهِ :(طَائِعِينَ( [ فصلت : ١١ ] فَذَكَرَ فِي هَذِهِ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ ؟.
وَقَالَ :(وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا( [ الفتح : ١٤ ] (عَزِيزًا حَكِيمًا( [ الفتح : ١٩ ] (سَمِيعًا بَصِيرًا( [ النساء : ٥٨ ] فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى ؟
فَقَالَ ابن عباس :(فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ( [ المؤمنون : ١٠١ ] فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ (.. فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ...(
[ الزمر ٦٨ ]فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ، ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الْآخِرَةِ (أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ(.
وَأَمَّا قَوْلُهُ (... مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ( [ الانعام : ٢٣ ] (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا( [ النساء : ٤٢ ] فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلاَصِ ذُنُوبَهُمْ، فقَالَ الْمُشْرِكُونَ : تَعَالَوْا نقُلْ لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ، فَخُتِمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ عُرِفَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا، وَعِنْدَهُ (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لو كانوا مسلمين( [ الحجر : ٢ ].
وَخَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ ؛ وَدَحْوُهَا أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى، وَخَلَقَ الْجِبَالَ، وَالْجِمَالَ، وَالْآكَامَ، وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ :(دَحَاهَا( وَقَوْلُهُ :(خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ( [ فصلت : ٩ ] فَجُعِلَتِ الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَخُلِقَتِ السَّمَوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ.
(وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا( [ الفرقان : ٧٠ ]سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ، فَلَا يَخْتَلِفْ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ(٥٧).
وغير ذلك من الآثار، وكلما بعد العهد بعصر النبوة، كلما زادت الإشكالات والطعون في القرآن.
واشتهر ابن عباس رضي الله عنه بالرد على من طعن في القرآن، كما سبق، وسيأتي التمثيل لذلك بأمثلة أخرى إن شاء الله.
--------------------------------------------------------------------------------
(٥٢) أخرجه ابن جرير الطبري مسندا كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره (١/٧) ولم أجده في تفسير ابن جرير بعد البحث في مظانه، وانظر : الإتقان (٣/٧).
(٥٣) أخرجه مسلم (كتاب الآداب، باب : النهي عن التكني بأبي القاسم، وبيان ما يستحب، رقم : ٢١٣).
(٥٤) قال ابن منظور :(صبِيغٌ : اسم رجل كان يَتَعَنَّتُ الناسَ بسُؤَالات في مُشْكل القرآن، فأَمر عمر بن الخطاب بضربه، ونفاه إِلى البَصرة، ونَهي عن مُجالَسَتِه )، لسان العرب (٨ /٤٣٩).
(٥٥) أخرجه مالك في الموطأ(٢/٤٥٥) تحقيق فؤاد عبدالباقي، مصر، دار إحياء التراث، ومعمر بن راشد في جامعه (١١/٤٢٦) تحقيق حبيب االأعظمي، بيروت، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، ١٤٠٣، والدارمي في سننه (١/٦٦) تحقيق زمرلي، بيروت، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى، ١٤٠٧، وإسناد القصة صحيح والقصة مشهورة، وانظر : الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي(٢/١٥٢) دار الفكر، بيروت، ١٤١٤، فقد جمع أطراف القصة ورواياتها.
(٥٦) فتح الباري لابن حجر العسقلاني (٨/٥٥٥).
(٥٧) أخرجه البخاري معلقا (كتاب تفسير القرآن، باب : سورة حم السجدة (فصلت) )، وقال الحافظ ابن حجر كما في الفتح (٨/٤١٨) : وصله الطبري وابن أبي حاتم بإسناد على شرط البخاري في الصحة.


الصفحة التالية
Icon