الباب الثاني (تطبيقي): موقف الطاعنين من آيات القرآن والرد عليهم
وفيه فصلان :
الفصل الأول : الردود الإجمالية على من طعن في القرآن.
الفصل الثاني : الردود التفصيلية على من طعن في القرآن.
الفصل الأول: الردود الإجمالية على من طعن في القرآن
-وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: الأدلة على صدق الرسول ( ﷺ ).
المبحث الثاني : الأدلة على صدق القرآن و ما فيه.
المبحث الثالث: ردود القرآن على الطاعنين.
المبحث الرابع : ردود إجمالية أخرى.
المبحث الأول: الأدلة على صدق الرسول ( ﷺ )
النبي ( ﷺ ) هو الذي نزل عليه القرآن، وهو الذي كان يقول إنه من عند الله تعالى، وإنه المعجزة الخالدة والآية الباقية، فإن كان النبي ( ﷺ ) صادقا فما يقوله حق، لذا أردت في هذا المبحث أن أذكر بعض أدلة صدق النبي ( ﷺ )، التي منها نستفيد صدق القرآن وأنه من عند الله حقا.
وكتوطئة لهذا المبحث، فإن إرسال الرسل واجب عقلي ؛ لأن الفِطر والعقول دلتنا على وجود الخالق سبحانه وأنه المستحق للعبادة، ولكن العبادة لا يمكن الاهتداء لمعرفة صفتها وتفصيلها إلا عن طريق واسطة عن الله عز وجل، يخبرنا بصفتها التي يحبها الله سبحانه، ويخبرنا عن ما يحل وما يحرم وما ينفعنا وما يضرنا(١٤٢)، لذلك قال الله تعالى :( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا( [الإسراء: ١٥]، وقال سبحانه :( رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( [النساء: ١٦٥]، وقال جل جلاله :( وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ( [الإسراء: ١٣٤]،
وقال جل في علاه :( وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( [القصص: ٤٧].
إذن فإرسال الرسل واجب عقلي، وهو أيضا واقع عملي ؛ فإن التاريخ لا يزال يخبرنا عن الكثير من الرسل والأنبياء وحالهم مع قومهم، وكيف كانت لهم الغلبة والنصرة دائما ؛ لذلك لما أنكرت قريش على النبي ( ﷺ )رسالته، قال له الله تعالى آمرا له بالاستدلال بالتاريخ والواقع :( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ... ( [الأحقاف: ٩].
فإذا كان العقل والواقع يدلان على أهمية إرسال الرسل(١٤٣) ؛ لم يجز إذن إنكار بعثة الرسل، بل الواجب هو طلب الدليل من مدعي الرسالة والنبوة على رسالته، من باب قوله تعالى :( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( [البقرة: ١١١].
وهذا ما فعله الكثير من الأمم السابقة إذا أرسل إليهم أحد، أو ادعى النبوة قالوا :(... لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ... ([البقرة : ١١٨]، ( وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ.. ( [الأنعام: ٣٧]، ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا.. ( [الأنعام: ١٠٩]،( وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ... ( [يونس: ٢٠].
وفي المطالب الآتية نذكر بعض الآيات والدلائل على صدق رسالة النبي ( ﷺ ) :
المطلب الأول : بشارة الكتب السابقة به:
أعني شهادة التوراة والإنجيل والكتب السابقة بصدق الرسول ( ﷺ ) ومعجزته (القرآن)، قال تعالى :( وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ( [الشعراء: ١٩٦].
يقول القرطبي :(أي وإن ذكر نزوله لفي كتب الأولين يعني الأنبياء، وقيل: أي إن ذكر محمد عليه السلام في كتب الأولين ; كما قال تعالى: ( يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل( [الأعراف: ١٥٧] والزبر الكتب، الواحد زبور، كرسول ورسل)(١٤٤).
وقال تعالى:( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ( [الصف: ٦].
وقال تعالى مبينا أن النبي ( ﷺ ) وأصحابه ليسوا فقط مذكورين في التوراة والإنجيل بأسمائهم، بل بصفتهم كذلك :( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( [الفتح: ٢٩].
بل بلغ من وصف الله تعالى لنبيه ( في الكتب السابقة، أنهم أصبحوا يعرفونه كما يعرف أحدهم ابنه ؛ قال تعالى :( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( [البقرة : ١٤٦].
وقد ألف العديد من العلماء كتبا جمعوا فيها النصوص من التوراة والإنجيل، وغيرها من الكتب السابقة، التي تشهد على صدق نبوة نبينا (، منهم :
إبراهيم خليل أحمد ألف كتاب " محمد في التوراة والإنجيل والقرآن " (١٤٥).
والداعية أحمد ديدات ألف كتاب " ماذا تقول التوراة والإنجيل عن محمد ( ﷺ ) " (١٤٦).
ود. أحمد حجازي السقا ألف كتاب " البشارة بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل " (١٤٧).
ود. صلاح صالح الراشد ألف كتاب "البشارات العجاب في صحف أهل الكتاب ؛ ٩٩دليلا على وجود النبي المبشر به في التوراة والإنجيل "(١٤٨).
وفي كتاب ابن القيم رحمه الله (هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى) فصل بعنوان (نصوص الكتب المتقدمة في البشارة بالنبي ( ﷺ ))(١٤٩)وكذا في كتاب شيخه ابن تيمية "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (١٥٠).
وفيما يلي بعض نصوص التوراة والإنجيل(١٥١) :
- في التوراة في سفر التثنية الأصحاح (١٨)فقرة(١٥-٣٠): يقول الرب تعالى لموسى :(سأقيم لبني إسرائيل نبيا من أخوتهم(١٥٢) مثلك(١٥٣) أجعل كلامي في فيه(١٥٤)، ويقول لهم ما آمره به، والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه(١٥٥)ومن سبطه).
وفي سفر التثنية، الأصحاح(١٨)فقرة(٩-١٣): (قال موسى لبني إسرائيل لا تطيعوا العرافين ولا المنجمين، فسيقيم لكم الرب نبيا من أخوتكم مثلي، فأطيعوا ذلك النبي ).
- وفي الإنجيل : في إنجيل يوحنا الأصحاح (١٤)فقرة(١٥):(إن المسيح قال للحواريين إني
ذاهب وسيأتيكم الفارقليط(١٥٦) روح الحق، لا يتكلم من قبل نفسه، إنما هو كما يقال له، وهو يشهد عليَّ وأنتم تشهدون ؛ لأنكم معي من قبل الناس).
وقد ذكر الدكتور حجازي أكثر من خمسين نصاً في الإنجيل على البشارة بنبينا ( ﷺ ).
وقد أخفى النصارى إنجيل برنابا الذي يصرح فيه باسم النبي ( ﷺ ) محمد وأنه النبي المبشر به من قبل المسيح وأنه آخر الرسل(١٥٧).
وصدق الله إذ يقول:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( [الأعراف: ١٥٧].
وعَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ قَالَ : لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قُلْتُ : أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ( ﷺ ) فِي التَّوْرَاةِ، قَالَ : أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا )(١٥٨) وزاد الإمام أحمد : قَالَ عَطَاءٌ لَقِيتُ كَعْبًا(١٥٩) فَسَأَلْتُهُ فَمَا اخْتَلَفَا فِي حَرْفٍ إِلَّا أَنَّ كَعْبًا يَقُولُ بِلُغَتِهِ : أَعْيُنًا عُمُومَى وَآذَانًا صُمُومَى وَقُلُوبًا غُلُوفَى)(١٦٠).
وعَنْ أَبِي صَخْرٍ الْعُقَيْلِيِّ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ قَالَ : جَلَبْتُ جَلُوبَةً(١٦١) إِلَى الْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ( ﷺ )، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ بَيْعَتِي قُلْتُ : لَأَلْقَيَنَّ هَذَا الرَّجُلَ فَلَأَسْمَعَنَّ مِنْهُ. قَالَ : فَتَلَقَّانِي بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشُونَ، فَتَبِعْتُهُمْ فِي أَقْفَائِهِمْ حَتَّى أَتَوْا عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ نَاشِرًا التَّوْرَاةَ يَقْرَؤُهَا، يُعَزِّي بِهَا نَفْسَهُ عَلَى ابْنٍ لَهُ فِي الْمَوْتِ، كَأَحْسَنِ الْفِتْيَانِ وَأَجْمَلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) :« َنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ هَلْ تَجِدُ فِي كِتَابِكَ ذَا صِفَتِي وَمَخْرَجِي». فَقَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا أَيْ لَا. قَالَ ابْنُهُ : إِنِّي وَالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ إِنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِنَا صِفَتَكَ وَمَخْرَجَكَ، أَشْهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ :« أَقِيمُوا الْيَهُودَ عَنْ أَخِيكُمْ، ثُمَّ وَلِيَ كَفَنَهُ وَحَنَّطَهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ » (١٦٢).
ومن أعجب ما قرأت في هذا الباب قصة الإمام أبي محمد عبدالله الميورقي الترجمان (المتوفى سنة ٨٣٢هـ)، الذي كان من أكبر قساوسة النصارى في وقته، بل كان مهيئا لأن يصبح البابا الأكبر، ثم أسلم عندما وقع على آية في الإنجيل تبشر بقدوم النبي ( ﷺ )، ثم ألف كتاب " تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب "، وقسمه قسمين ؛ القسم الأول : في ذكر قصة إسلامه، والثانية في الردود المفصلة على النصارى(١٦٣)، وذكر قصة انتقاله إلى الإسلام في سبع عشرة صفحة هذا مختصرها:
قال : اعلموا رحمكم الله أن أصلي من مدينة ميورقة(١٦٤)