مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحمد لله الذي هدانا لدينه، وجعلنا من أهله، وفضلنا بما علمنا بتنزيله، وشرفنا بمحمد نبيه ورسوله، صلى الله عليه وسلم. وأنزل عليه كتابه الذي (لَم يَجعَل لَهُ عوجاً) وجعله (قيماً. لِيُنذِرَ بَأساً شَديداً مِن لَدُنِّه) و (لا يَأتيهِ الباطِلُ مِن بَينِ يَدَيهِ وَلا مِن خَلفِهِ تَنزيلٌ مِن حَكيمٍ حَميدٍ).
بين فيه الحلال والحرام، والحدود والأحكام، والمقدم والمؤخر، والمطلق والمقيد، والأقسام والأمثال، والمجمل والمفصل، والخاص والعام، والناسخ والمنسوخ (لِيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بيِّنَةٍ وَيحيى مِن حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَهَ لَسَميعٌ عَليم).
قال: فأول ما ينبغي لمن أحب أن يتعلم شيئا من علم هذا الكتاب - أي القرآن العظيم - الابتداء في علم الناسخ والمنسوخ، اتباعا لما جاء من أئمة السلف رضي الله عنهم أجمعين، لأن كل من تكلم في شيء من علم هذا الكتاب العزيز - ولم يعلم الناسخ والمنسوخ - كان ناقصا.
وقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: أنه دخل يوما مسجد الجامع بالكوفة، فرأى فيه رجلا يعرف بعبد الرحمن بن داب، وكان صاحبا لأبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - وقد تحلق عليه الناس يسألونه، وهو يخلط الأمر بالنهي، والإباحة بالحظر، فقال له علي رضي الله: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت، أبو من أنت؟ فقال: أبو يحيى، فقال له علي رضي الله عنه: أنت أبو اعرفوني. وأخذ أذنه ففتلها، فقال: لا تقصن في مسجدنا بعد.
وروي في معنى هذا الحديث عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس - رض الله عنهم - أنهما قالا لرجل آخر مثل قول أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه، أو قريبا منه.
وقال حذيفة بن اليمان: لا يقصن على الناس إلا ثلاثة: أمير، أو: مأمور، ورجل عرف الناسخ والمنسوخ. والرابع: متكلف أحمق.
وقال أبو القاسم رحمه الله: وهذا هو الصحيح، لأنه يخلط الأمر بالنهي، والإباحة بالحظر.
وقال: ولما رأيت المفسرين قد تهالكوا هذا العلم، ولم يأتوا منه وجه الحفظ، وخلطوا بعضه ببعض، ألفت هذا الكتاب، ليقرب على من أحب تعليمه، وتذكرا لمن علمه، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

باب الناسخ والمنسوخ


أعلم أن الناسخ والمنسوخ في كلام العرب هو: رفع الشيء، وجاء الشرع بما تعرف العرب، إذ كان الناسخ يرفع حكم المنسوخ.
والمنسوخ في كتاب الله عز وجل على ثلاثة أضرب: فمنه: ما نسخ خطه وحكمه.
ومنه: ما نسخ خطه وبقي حكمه.
ومنه: ما نسخ حكمه وبقي خطه.
فأما ما نسخ حكمه وخطه: فمثل ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله ﷺ سورة تعدلها سورة التوبة، ما أحفظ منها غير آية واحدة: (ولو أن لابن آدم واديان من ذهب لا بتغى إليها ثالثا، ولو أن له ثالثا لابتغى إليها رابعا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب).
وروى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أقرأني رسول الله ﷺ آية، فحفظتها وكتبتها في مصحفي، فلما كان الليل رجعت إلى مضجعي فلم أرجع منها بشيء، وغدوت على مصحفي فإذا الورقة بيضاء، فأخبرت النبي ﷺ فقال لي: (يا ابن مسعود، تلك رفعت البارحة).
وأما ما نسخ خطه وبقي حكمه: فمثل ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لولا أكره أن يقول الناس: قد زاد في القرآن ما ليس فيه، لكتبت آية الرجم وأثبتها، فوالله لقد قرأناها على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ترغبوا عن آبائكم، فإن ذلك كفر بكم. الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة، نكالا من الله والله عزيز حكيم).
فهذا منسوخ الخط ثابت الحكم.
وأما ما نسخ حكمه وبقي خطه: فهو في ثلاث وستين سورة، مثل: الصلاة إلى بيت المقدس، والصيام الأول، والصفح عن المشركين والإعراض عن الجاهلين.
قال أبو القاسم: فأول ما نبدأ به من ذلك: تسمية السور التي لم يدخلها ناسخ ولا منسوخ وهي ثلاث وأربعون سورة، والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon