ص : ٥٢٩
من سورة النور
قال اللّه تعالى : سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١)
وَفَرَضْناها الفرض : قطع الشيء الصلب، والتأثير فيه، والمراد به هنا الإيجاب على أتم وجه، أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيا.
آياتٍ بَيِّناتٍ ترد الآية في القرآن بمعنى الكلام المتصل إلى مقطعه الاصطلاحي وبمعنى العلامة، وفي هذه السورة آياتٍ بَيِّناتٍ واضحة الدلالة على أحكامها. مثل الآيات التي نيطت بها أحكام الزنى، والقذف، واللعان، والحلف على ترك الخير، والاستئذان، وغض البصر، وإبداء الزينة للمحارم وغير المحارم، وإنكاح الأيامى، واستعفاف من لم يجد نكاحا، ومكاتبة الأرقاء، وإكراه الفتيات على البغاء، وطاعة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم، والسلام على المؤمنين. إلى كثير من الأحكام التي ذكرت في هذه السورة.
وفي هذه السورة أيضا طائفة من الآيات الكونية، والظواهر الطبيعية، فيها دلالات واضحة، وحجج قاطعة، على توحيد اللّه وكمال قدرته : مثل النور والظلمة، والتأليف بين السحاب، وإنزال المطر من خلاله، ووميض البرق ولمعانه، وتقليب الليل والنهار، واختلاف الحيوانات في أشكالها وهيئاتها وطبائعها، مع اتحاد المادة التي منها خلقت، إلى غير ذلك من حجج التوحيد وشواهد القدرة.
وإذا علمت أنّ إطلاق الآية على كلّ من المعنيين - الكلام والعلامة - حقيقي علمت أنّ كلمة آية مشترك لفظي، فمن أجاز استعمال المشترك في معنييه لا مانع عنده من إرادة المعنيين جميعا في قوله تعالى : وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ ومن أبى استعمال المشترك في معنييه يحتّم إرادة أحد المعنيين لا غير، فيحتمل أن يكون المراد بالآيات الآيات التي نيطت بها الأحكام في هذه السورة، ومعنى كونها بينات أنها واضحة الدلالة على ما نيط بها من الأحكام، ويحتمل أن يكون المراد بالآيات ما في هذه السورة من دلائل التوحيد، وشواهد القدرة، ومعنى كونها بينات أن دلالتها على ما ذكر واضحة ظاهرة وعلى هذا الاحتمال يكون قوله تعالى : وَفَرَضْناها إشارة إلى الأحكام والحدود المبينة في السورة. وقوله تعالى : وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ إشارة إلى آيات التوحيد، ويؤيّد هذا الاحتمال قوله تعالى : لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فإنّ معنى التذكر أن يعاد إلى الذاكرة ما كان معلوما، والأحكام التي في هذه السورة لم تكن معلومة لهم


الصفحة التالية
Icon