والضرب الثاني من تعلق الحرف بما يتعلق به العطف، وهو أن يدخل الثاني في عمل العامل في الأول كقولنا: جاءني زيد وعمرو، ورأيت زيداً وعمراً، ومررت بزيد وعمرو.
تعلقه بمجموع الجملة
والضرب الثالث: تعلقه بمجموع الجملة كتعلق حرف النفي والاستفهام والشرط الجزاء بما يدخل عليه. وذلك أن من شأن هذه المعاني أن تتناول ما تتناولة بالتقييد، بعد أن يسند إلى شيء. معنى ذلك أنك إذا قلت: ما خرج زيد وما زيد خارج لم يكن لنفي الواقغ بها متناولاً الخروج على الإطلاق، بل الخروج واقعاً من زيد ومسنداً إليه. لا يغرنك قولنا في نحو: لا رجل في الدار أنها لنفي الجنس، فإن المعنى في ذلك أنها قي الكينونة في الدار عن الجنس، ولو كان يتصور تعلق النفي بالاسم المفرد لكان الذي قالوه في كلمة التوحيد من أن التقدير فيها لا إله لنا، أو في الوجود، إلا الله فضلاً من القول، وتقديراً لما لا يحتاج إليه، وكذلك الحكم أبداً.
فإذا قلت: هل خرج زيد. لم تكن قد استفهمت عن الخروج مطلقاً، ولكن عنه واقعاً من زيد. وإذا قلت: إن يأتني زيد أكرمه، لم تكن جعلت الإتيان شرطاً بل الإتيان من زيد. وكذا لم تجعل الإكرام على الإطلاق جزاء للإتيان بل الإكرام واقعاً منك. كيف وذلك يؤدي إلى أشنع ما يكون من المحال. وهو أن يكون هاهنا إتيان من غير آت، وإكرام من غير مكرم، ثم يكون هذا شرطاً وذلك جزاء؟ ومختصر كل الأمر أنه لا يكون كلام من جزء واحد، وأنه لا بد من مسند ومسند إليه، كذلك السبيل في كل حرف رأيته يدخل على جملة، كإن وأخواتها. ألا ترى أنك إذا قلت: كأن يقتضي مشبهاً ومشبهاً به؟ كقولك: كأن زيداً الأسد. وكذلك إذا قلت: لو ولولا وجدتهما يقتضيان جملتين، تكون الثانية جواباً للأولى.
وجملة الأمر أنه لا يكون كلام من حرف وفعل أصلاً، ولا من حرف واسم إلا في النداء نحو: يا عبد الله. وذلك أيضاً إذا حقق الأمر كان كلاماً بتقدير الفعل المضمر الذي هو أعني، وأريد، وأدعو، و يا دليل على قيام معناه في النفس.
فهذه هي الطرق والوجوه في تعلق الكلم بعضها ببعض. وهي كما تراها معاني النحو وأحكامه.
وكذلك السبيل في كل شيء كان له مدخل في صحة تعلق الكلم بعضها ببعض، لا ترى شيئاً من ذلك يعدو أن يكون حكماً من أحكام النحو، ومعنى من معانيه. ثم إنا نرى هذه كلها موجودة في كلام العرب، ونرى العلم بها مشتركاً بينهم.
وإذا كان ذلك كذلك فما جوابنا لخصم يقول لنا: إذا كانت هذه الأمور وهذه الوجوه من التعلق، التي هي محصول النظم، موجودة على حقائقها، وعلى الصحة، وكما ينبغي في منثور كلام العرب ومنظومه، ورأيناهم قد استعملوها وتصرفوا فيها وكملوا بمعرفتها، وكانت حقائق لا تتبدل ولا تختلف بها الحال، إذ لا يكون للاسم بكونه خبراً لمبتدأ، أو صفة لموصوف، أو حالاً لذي حال، أو فاعلاً، أو مفعولاً لفعل، في كلام حقيقة هي خلاف حقيقته في كلام آخر، فما هذا الذي تجدد بالقرآن من عظيم المزية، وباهر الفضل، والعجيب من الوصف، حتى أعجز الخلق قاطبة، وحتى قهر من البلغاء والفصحاء القوى والقدر وقيد الخواطر والفكر، وحتى، خرست الشقاشق وعدم نطق الناطق، وحتى لم يجر لسان، ولم يبن بيان، ولم يساعد إمكان، ولم ينقدح لأحد منهم زند، لم يمض له حد، وحتى أسال الوادي عليهم عجزاً، وأخذ منافذ القول عليهم أخذاً؟ أيلزمنا أن نجيب هذا الخصم عن سؤاله؟ ونرده عن ضلاله؟ وأن نطب لدائه؟ ونزيل الفساد عن رائه؟ فإن كان ذلك يلزمنا، فينبغي لكل في دين وعقل أن ينظر في الكتاب الذي وضعناه، ويستقصي التأمل لما أودعناه. فإن علم أنه الطريق إلى البيان، والكشف عن الحجة والبرهان، تبع الحق وأخذ به، وإن رأى أن له طريقاً غيره أومى لنا إليه، ودلنا عليه، وهيهات ذلك وهنه أبيات في مثل ذلك، من البسيط، :
إني أقول مقالاً لست أخفيه | ولست أرهب خصماً إن بدا فيه |
ما من سبيل إلى إثبات معجزة | في النظم إلا بما أصبحت أبديه |
فما لنظم كلام أنت ناظمه | معنى سوى حكم إعراب تزجيه |
اسم يرى، وهو أصل للكلام فما | يتم من دونه قصد لمنشيه |
وآخر هو يعطيك الزيادة في | ما أنت تثبته أوأنت تنفيه |