قد قطعت عذر المتهاون، ودللت على ما أضاع من حظه، وهديته لرشده، وصح أن لا غنى بالعاقل عن معرفة هذه الأمور والوقوف عليها والإحاطة بها، وأن الجهة التي منها يقف، والسبب الذي به يعرف، استقراء كلام العرب وتتبع أشعارهم، والنظر فيها. وإذ قد ثبت ذلك فينبغي لنا أن نبتدىء في بيان ما أردنا بيانه، ونأخذ في شرحه والكشف عنه.
وجملة ما أردت أن أبينه لك أنه لا بد لكل كلام تستحسنه، ولفظ تستجيده، من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة، وعلة معقولة. وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذاك سبيل، وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل. وهو باب من العلم إذا أنت فتحته اطلعت منه على فوائد جليلة، ومعان شريفة. ورأيت له أثراً في الدين عظيماً، وفائدة جسيمة، ووجدته سبباً إلى حسم كثير من الفساد فيما يعود إلى التنزيل، وإصلاح أنواع من الخلل فيما يتعلق بالتأويل. وإنه ليؤمنك من أن تغالط في دعواك، وتدافع عن مغزاك، ويربأ بك عن أن تستبين هدى، ثم لا تهتدي إليه، وتدل بعرفان ثم لا تستطيع أن تحل عليه. وأن تكون عالماً في ظاهر مقلد، ومستبيناً في صورة شاك، وأن يسألك السائل عن حجة يلقى بها الخصم في آية من كتاب الله تعالى، أو غير ذلك، فلا ينصرف عنك بمقنع، وأن يكون غاية ما لصاحبك منك أن تحيله على نفسه، وتقول: قد نظرت فرأيت فضلاً ومزية، وصادفت لذلك أريحية. فانظر لتعرف كما عرفت، وارجع نفسك، واسبر، وذق لتجد مثل الذي وجدت. فإن عرف فذاك، وإلا فبينكما التناكر، تنسبه إلى سوء التأمل، وينسبك إلى فساد في التخيل. وإنه على الجملة بحيث ينتقي لك من علم الإعراب خالصه ولبه، ويأخذ لك من أناسي العيون، وحبات القلوب، وما لا يدفع الفضل فيه دافع، ولا ينكر رجحانه في موازين العقول منكر. وليس يتأتى لي أن أعلمك من أول الأمر في ذلك آخره، وأن أسمي لك الفصول التي في نيتي أن أحررها بمشيئة الله عز وجل، حتى تكون على علم بها قبل موردها عليك. فاعمل على أن هاهنا فصولاً لا يجيء بعضها في إثر بعض، وهذا أولها:
تحقيق القول على البلاغة والفصاحة والبيان والبراعة
تحقيق القول على البلاغة والفصاحة والبيان والبراعة، وكل ما شاكل ذلك مما يعبر به عن فضل بعض القائلين على بعض من حيث نطقوا وتكلموا، وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد، وراموا أن يعلموهم ما في نفوسهم، ويكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم.
ومن المعلوم أن لا معنى لهذه العبارات وسائر ما يجري مجراها مما يفرد فيه اللفظ بالنعت والصفة، وينسب فيه الفضل والمزية إليه دون المعنى، غير وصف الكلام بحسن الدلالة وتمامها فيما له كانت دلالة، ثم تبرجها في صورة هي أبهى وأزين، وآنق وأعجب، وأحق بأن تستولي على هوى النفس، وتنال الحظ الأوفر من ميل القلوب، وأولى بأن تطلق لسان الحامد، وتطيل رغم الحاسد. ولا جهة لاستعمال هذه الخصال غير أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته، ويختار له اللفظ الذي هو أخص به، وأكشف عنه وأتم له، وأحرى بأن يكسبه نبلاً، ويظهر فيه مزية.
وإذا كان هذا كذلك فينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف، وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخباراً وأمراً ونهياً واستخباراً وتعجباً، وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضم كلمة إلى كلمة، وبناء لفظة على لفظة، هل يتصور أن يكون بين اللفظتين تفاضل في الدلالة حتى تكون هذه أدل على معناها الذي وضعت من صاحبتها على ما هي موسومة به، حتى يقال إن رجلاً أدل على معناه من فرس على ما سمي به. وحتى يتصور في الاسمين الموضوعين لشيء واحد أن يكون هذا أحسن نبأ عنه، وأبين كشفاً عن صورته من الآخر؟ فيكون الليث مثلاً أدل على السبع المعلوم من الأسد، وحتى إنا لو أردنا الموازنة بين لغتين كالعربية والفارسية ساغ لنا أن نجعل لفظة رجل، أدل على الأدمي الذكر من نظيره في الفارسية.