وهذا باب واسع، فإنك تجد متى شئت الرجلين قد استعملا كلماً بأعيانها. ثم ترى هذا قد فرع السماك، وترى ذاك قد لصق بالحضيض. فلو كانت الكلمة إذا حسنت حسنت من حيث هي لفظ، وإذا استحقت المزية والشرف، واستحقت ذلك في ذاتها وعلى انفرادها، دون أن يكون السبب في ذلك حال لها مع أخواتها المجاورة لها في النظم، لما اختلف بها الحال، ولكانت إما أن تحسن أبداً أو لا تحسن أبداً. ولم تر قولاً يضطرب على قائله حتى لا يدري كيف يعبر، وكيف يورد ويصدر، كهذا القول. بل إن أردت الحق فإنه من جنس الشيء يجري به الرجل لسانه، ويطلقه. فإذا فتش نفسه وجدها تعلم بطلانه، وتنطوي على خلافه. ذاك لأنه مما لا يقوم بالحقيقة في اعتقاد، ولا يكون له صورة في فؤاد.
الفروق بين الحروف المنظومة والكلم المنظومة
ومما يجب إحكامه بعقب هذا الفصل: الفرق بين قولنا: حروف منظومة وكلم منظومة.
وذلك أن نظم الحروف هو تواليها في النطق فقط، وليس نظمها بمقتضى عن معنى، ولا الناظم لها بمقتف في ذلك رسماً من العقل اقتضى أن يتحرى في نظمه لها ما تحراه. فلو أن واضع اللغة كان قد قال ربض مكان ضرب لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد. وأما نظم الكلم فليس الأمر فيه كذلك، لأنك تقتضي في نظمها آثار المعاني، وترتبها على حسب ترتيب المعاني في النفس. فهو إذاً نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، وليس هو النظم الذي معناه ضم الشيء إلى الشيء كيف جاء واتفق. وكذلك كان عندهم نظيراً للنسج والتأليف والصياغة والبناء والوشي والتحبير، وما أشبه ذلك مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضها مع بعض، حتى يكون لوضع كل حيث وضع علة تقتضي كونه هناك، وحتى لو وضع في مكان غيره لم يصح.
والفائدة في معرفة هذا الفرق أنك إذا عرفته عرفت أن ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها في النطق، بل أن تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل. وكيف يتصور أن يقصد به إلى توالي الألفاظ في النطق، بعد أن ثبت أنه نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، وأنه نظير الصياغة والتحبير والتفويف والنقش، وكل ما يقصد به التصوير، وبعد أن كنا لا نشك في أن لا حال للفظة مع صاحبتها تعتبر إذا أنت عزلت دلالتهما جانباً. وأي مساغ للشك في أن الألفاظ لا تستحق من حيث هي ألفاط أن تنظم على وجه دون وجه. ولو فرضنا أن تنخلع، من هذه الألفاظ التي هي لغات، دلالتها، لما كان شيء منها أحق بالتقديم من شيء. ولا يتصور أن يجب فيها ترتيب ونظم. ولو حفظت صبياً شطر كتاب العين أو الجمهرة من غير أن تفسر له شيئاً منه، وأخذته بأن يضبط صور الألفاظ وهيئتها، ويؤديها كما يؤدي أصناف أصوات الطيور لرأيته ولا يخطر ببال أن من شأنه أن يؤخر لفظاً، ويقدم آخر. بل كان حاله حال من يرمي الحصى ويعد الجوز. اللهم إلا أن تسومه أنت أن يأتي بها على حروف المعجم، ليحفظ نسق الكتاب.
ودليل آخر وهو أنه لو كان القصد بالنظم إلى اللفظ نفسه دون أن يكون الغرض ترتيب المعاني في النفس، ثم النطق بالألفاظ على حذوها لكان ينبغي ألا يختلف حال اثنين في العلم بحسن النظم، أو غير الحسن فيه، لأنهما يحسان بتوالي الألفاظ في النطق إحساساً واحداً، ولا يعرف أحدهما في ذلك شيئاً يجهله الآخر.
وأوضح من هذا كله، وهو أن النظم الذي يتواصفه البلغاء، وتتفاضل مراتب البلاغة من أجله صنعة يستعان عليها بالفكرة لا محالة. وإذا كانت مما يستعان عليه بالفكرة، ويستخرج بالروية فينبغي أن ينظر في الفكر بماذا تلبس، أبالمعاني؟ أم بالألفاظ؟ فأي شيء وجدته الذي تلبس به فكرك من بين المعاني والألفاظ فهو الذي تحدث فيه صنعتك، وتقع فيه صياغتك ونظمك وتصويرك، فمحال أن تتفكر في شيء، وأنت لا تصنع فيه شيئاً. وإنما تصنع في غيره لو جاز ذلك لجاز أن يفكر البناء في الغزل ليجعل فكره فيه وصلة إلى أن يصنع من الآجر، وهو من الإحالة المفرطة.


الصفحة التالية
Icon