ونظير هذا في التنزيل قوله عز وجل: " وفجرنا الأرض عيوناً، " التفجير للعيون في المعنى، وأوقع على الأرض في اللفظ، كما أسند هناك الاشتعال إلى الرأس. وقد حصل بذلك من معنى الشمول هاهنا مثل الذي حصل هناك. وذلك أنه قد أفاد أن الأرض قد كانت صارت عيوناً كلها، وأن الماء قد كان يفور من كل مكان منها. ولو أجري اللفظ على ظاهره فقيل: وفجرنا عيون الأرض، أو العيون في الأرض، لم يفد ذلك، ولم يدل عليه، ولكان المفهوم منه أن الماء قد كان فار من عيون متفرقة في الأرض، وتبجس من أماكن منها.
واعلم أن في الآية الأولى شيئاً آخر من جنس النظم، وهو تعريف الرأس بالألف اللام، وإفادة معنى الإضافة من غير إضافة، وهو أحد ما أوجب المزية. ولو قيل: واشتعل رأسي. فصرح بالإضافة لذهب بعض الحسن فاعرفه. وأنا أكتب لك شيئاً مما سبيل الاستعارة فيه هذا السبيل، ليستحكم هذا الباب في نفسك، ولتأنس به. فمن عجيب ذلك قول بعض الأعراب من الرجز:
الليل داج كنفا جلبابه... والبين محجور على غرابه
ليس كل ما ترى من الملاحة لأن جعل لليل جلباباً، وحجر على الغراب. ولكن في أن وضع الكلام الذي ترى، فجعل الليل مبتدأ وجعل داج خبراً له، وفعلاً لما بعده، وهو الكنفان، وأضاف الجلباب إلى ضمير الليل. ولأن جعل كذلك البين مبتدأ، وأجرى محجوراً خبراً عليه، وأن أخرج اللفظ على مفعول. يبين ذلك أنك لو قلت: وغراب البين محجور عليه أو: قد حجر على غراب البين، لم تجد له هذه الملاحة. وكذلك لو قلت: قد دجا كنفا جلباب الليل، لم يكن شيئاً.
ومن النادر فيه قول المتنبي، من الخفيف:
غصب الدهر والملوك عليها... فبناها في وجنة الدهر خالا
قد ترى في أول الأمر أن حسنه أجمع في أن جعل للدهر وجنة، وجعل البنية خالاً في الوجنة. وليس الأمر على ذلك، فإن موضع الأعجوبة في أن أخرج الكلام، مخرجه الذي ترى، وأن أتى بالخال منصوباً على الحال من قوله فبناها. أفلا ترى أنك لو قلت: وهي خال في وجنة الدهر، لوجدت الصورة، غير ما ترى. وشبيه بذلك أن ابن المعتز قال:
يا مسكة العطار... وخال وجه النهار
وكانت الملاحة في الإضافة بعد الإضافة لا في استعارة لفظة الخال، إذ معلوم أنه لو قال: يا خالاً في وجه النهار أو: يا من هو خال في وجه النهار، لم يكن شيئاً. ومن شأن هذا الضرب أن يدخله الاستكراه. قال الصاحب: " إياك والإضافات المتداخلة، فإن ذلك لا يحسن. وذكر أنه يستعمل في الهجاء كقول القائل، من الخفيف:
ياعلي بن حمزة بن عماره... أنت والله ثلجة في خياره
ولا شبهة في ثقل ذلك في الأكثر، ولكنه إذا سلم من الاستكراه لطف وملح.
ومما حسن فيه قول ابن المعتز أيضاً، من الطويل:
وظلت تدير الراح أيدي جاذر... عتاق دنانير الوجوه ملاح
ومما جاء منه حسناً جميلاً قول الخالدي في صفة غلام له، من المنسرح:
ويعرف الشعر مثل معرفتي... وهو على أن يزيد مجتهد
وصيرفي القريض وزان دينا... ر المعاني الدقاق منتقد
ومنه قول أبي تمام، من الكامل:
خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى... والليل أسود رقعة الجلباب
ومما أكثر الحسن فيه بسبب النظم قول المتنيي، من الطويل:
وقيدت نفسي في ذراك محبة... ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا
الاستعارة في أصلها مبتذلة معروفة، فإنك ترى العامي يقول للرجل يكثر إحسانه إليه وبره له، حتى يألفه ويختار المقام عنده: قد قيدني بكثرة إحسانه إلي، وجميل فعله معي حتى صارت نفسي لا تطاوعني على الخروج من عنده، وإنما كان ما ترى من الحسن بالمسلك الذي سلك في النظم والتأليف.
التقديم والتأخير
هو باب كثير الفوائد، جم المحاسن، واسع التصرف، بعيد الغاية. لا يزال يفتر لك عن بديعة، ويفضي بك إلى لطيفة. ولا تزال ترى شعراً يروقك مسمعه، ويلطف لديك موقعه، ثم تنظر فتجد سبب أن راقك، ولطف عندك أن قدم فيه شيء وحول اللفظ عن مكان إلى مكان.
واعلم أن تقديم الشيء على وجهين:


الصفحة التالية
Icon