وكذلك حكم غير إذا سلك هذا المسلك فقيل: غيري يفعل ذاك على معنى أني أفعله، لا أفعله لا أن يومىء بغير إلى إنسان فيخبر عنه بأن يفعل، كما قال، من البسيط:
غيري بأكثر هذا الناس ينخدع
وذاك أنه معلوم أنه لم يرد أن يعرض بواحد كان هناك، فيستنقضه ويصفه بأنه مضعوف يغر ويخدع، بل لم يرد إلا أن يقول: إني لست ممن ينخدع ويغتر. وكذلك لم يرد أبو تمام بقوله، من الوافر:
وغيري يأكل المعروف سحتاً | وتشحب عنده بيض الأيادي |
واستعمال مثل وغير على هذا السبيل شيء مركوز في الطباع، وهو جار في عادة كل قوم. فأنت الآن إذا تصفحت الكلام وجدت هذين الاسمين يقدمان أبداً على الفعل إذا نحي بهما هذا النحو الذي ذكرت لك، وترى هذا المعنى لا يستقيم فيهما إذا لم يقدما. أفلا ترى أنك لو قلت: يثني المزن عن صوبه مثلك، ورعى الحق والحرمة مثلك، ويحمل على الأدهم والأشهب مثل الأمير، وينخدع غيري بأكثر هذا الناس، ويأكل غيري المعروف سحتاً، رأيت كلاماً مقلوباً عن جهته، ومغيراً عن صورته، ورأيت اللفظ قد نبا عن معناه، رأيت الطبع يأبى أن يرضاه؟ وأعلم أن معك دستوراً لك فيه إن تأملت غنى عن كل ما سواه، وهو أنه لا يجوز أن يكون لنظم الكلام وترتيب أجزائه في الاستفهام معنى لا يكون له ذلك المعنى في الخبر. وذاك أن الاستفهام استخبار، والاستخبار هو طلب من المخاطب أن يخبرك. فإذا كان كذلك كان محالاً أن يفترق الحال بين تقديم الاسم وتأخيره في الاستفهام، فيكون المعنى إذا قلت: أزيد قام. غيره إذا قلت: أقام زيد؟ ثم لا يكون هذا الافتراق في الخبر، ويكون قولك: زيد قام، وقام زيد سواء، ذاك لأنه يؤدي إلى أن تستعمله أمراً لا سبيل فيه إلى جواب، وأن تستثبته المعنى على وجه ليس عنده عبارة يثبته لك بها على ذلك الوجه.
وجملة الأمر أن المعنى في إدخالك حرف الاستفهام على الجملة من الكلام هو أنك تطلب أن يقفك في معنى تلك الجملة ومؤداها على إثبات أو نفي. فإذا قلت: أزيد منطلق؟ فأنت تطلب أن يقول لك: نعم هو منطلق. أو يقول: لا ما هو منطلق. وإذا كان ذلك كذلك كان محالاً أن لا تكون الجملة إذا دخلتها همزة الاستفهام استخباراً عن المعنى على وجه لا تكون هي إذا نزعت منها الهمزة إخباراً به على ذلك الوجه فاعرفه.
كلام في النكرة إذا قدمت على الفعل أو قدم الفعل عليها
إذا قلت: أجاءك رجل؟ فأنت تريد أن تسأله: هل كان مجيء من أحد من الرجال إليه؟ فإن قذمت الاسم فقلت: أرجل جاءك؟ فأنت تسأله عن جنس من جاءه أرجل هو أم امرأة. ويكون هذا منك إذا كنت علمت أنه قد أتاه آت. ولكنك لم تعلم جنس ذلك الآتي، فسبيلك في ذلك سبيلك إذا أردت أن تعرف عين الآتي فقلت: أزيد جاءك أم عمرو؟ ولا يجوز تقديم الاسم في المسألة الأولى، لأن تقديم الاسم يكون إذا كان السؤال عن الفاعل، والسؤال عن الفاعل يكون إما عن عينه أو عن جنسه ولا ثالث. وإذا كان كذلك كان محالاً أن تقدم الاسم النكرة، وأنت لا تريد السؤال عن الجنس، لأنه لا يكون لسؤالك حينئذ متعلق من حيث لا يبقى بعد الجنس إلا العين. والنكرة لا تدل على عين شيء، فيسأل بها عنه. فإن قلت: أرجل طويل جاءك أم قصير؟ كان السؤال عن أن الجائي من جنس طوال الرجال أم قصارهم؟ فإن وصفت النكرة بالجملة فقلت: أرجل كنت عرفته من قبل أعطاك هذا أم رجل لم تعرفه؟ كان السؤال عن المعطي؟ أكان ممن عرفه قبل أم كان إنساناً لم تتقدم منه معرفة.
وإذا قد عرفت الحكم في الابتداء بالنكرة في الاستفهام فابن الخبر عليه. فإذا قلت: رجل جاءني، لم يصلح حتى تريد أن تعلمه أن الذي جاءك رجل لا امرأة، ويكون كلامك مع من قد عرف أن قد أتاك آت. فإن لم ترد ذاك كان الواجب أن تقول: جاءني رجل، فتقدم الفعل. وكذلك إن قلت: رجل جاءني، لم يستقم حتى يكون السامع قد ظن أنه قد أتاك قصير أو نزلته من ظن ذلك.