وإذ قد عرفت هذه الأصول والقوانين في شأن فصل الجمل ووصلها، فاعلم أنا قد حصلنا من ذلك على أن الجمل على ثلاثة أضرب.
جملة حالها مع التي قبلها حال الصفة مع الموصوف، والتأكيد مع المؤكد. فلا يكون فيها العطف البتة لشبه العطف فيها لو عطفت بعطف الشيء على نفسه.
وجملة حالها مع التي قبلها حال الاسم يكون غير الذي قبله إلا أنه يشاركه في حكم، ويدخل معه في معنى مثل أن يكون كلا الاسمين فاعلاً أو مفعولاً أو مضافاً إليه فيكون حقها العطف.
وجملة ليست في شيء من الحالين بل سبيلها مع التي قبلها سبيل الاسم مع الاسم، لا يكون منه في شيء، فلا يكون إياه ولا مشاركاً له في معنى، بل هو شيء إن ذكر لم يذكر إلا بأمر ينفرد به. ويكون ذكر الذي قبله وترك الذكر سواء في حاله لعدم التعلق بينه وبينه رأساً. وحق هذا ترك العطف البتة، فترك العطف يكون إما للاتصال إلى الغاية أو الانفصال الى الغاية، والعطف لما هو واسطة بين الأمرين، وكان له حال بين حالين، فاعرفه.
مسائل دقيقة في عطف الجمل
هذا فن من القول خاص دقيق. اعلم أن مما يقل نظر الناس فيه من أمر العطف أنه قد يؤتى بالجملة، فلا تعطف على ما يليها ولكن تعطف على جملة بينها وبين هذه التي تعطف جملة أو جملتان. مثال ذلك قول المتنبي، من الوافر:
تولوا بغتة فكأن بيناً | تهيبني ففاجأني اغتيالا |
فكان مسير عيسهم ذميلاً | وسير الدمع إثرهم انهمالا |
وهاهنا شيء آخر دقيق. وهو أنك إذا نظرت إلى قوله: فكان مسير عيسهم ذميلاً وجدته لم يعطف هو وحده على ما عطف عليه، ولكن تجد العطف قد تناول جملة البيت مربوطاً آخره بأوله، ألا ترى أن الغرض من هذا الكلام أن يجعل توليهم بغتة وعلى الوجه الذي توهم من أجله أن البين تهيبه مستدعياً بكاءه، وموجباً أن ينهمل دمعه. فلم يعنه أن يذكر ذملان العيس إلا ليذكر هملان الدمع، وأن يوفق بينهما؟ وكذلك الحكم في الأول فنحن وإن قلنا إن العطف على تولوا بغتة فإنا لا نعني أن العطف عليه وحده مقطوعاً عما بعده بل العطف عليه مضموماً إليه ما بعده إلى آخره. وإنما أردنا بقولنا: إن العطف عليه أن نعلمك أنه الأصل والقاعدة، وأن نصرفك عن أن تطرحه، وتجعل العطف على ما يلي هذا الذي تعطفه، فتزعم أن قوله: فكان مسير عيسهم؟ معطوف على فاجأني فتقع في الخطأ كالذي أريناك. فأمر العطف إذاً موضوع على أنك تعطف تارة جملة على جملة، وتعمد أخرى إلى جملتين أو جمل، فتعطف بعضاً على بعض، ثم تعطف مجموع هذي على مجموع تلك.