موقف الرسول - ﷺ - من الغيب (١)
إنما يمثل موقف البشرية أمام الغيب المجهول. ومهما يعلم الإنسان ومهما يتعلم، فإن موقفه أمام باب الغيب الموصد، وأمام ستر الغيب المسدل، سيظل يذكره ببشريته المحجوبة أمام عالم الغيب المحجوب.
والرسول - صلى اللّه عليه وسلم - وهو من هو وقربه من ربه هو قربه، مأمور أن يعلن للناس أنه أمام غيب اللّه بشر من البشر، لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، لأنه لا يطلع على الغيب، ولا يعرف الغايات قبل المذاهب، ولا يرى مآل أفعاله ومن ثم لا يملك أن يختار عاقبة فعله بحيث إن رأى العاقبة المغيبة خيرا أقدم، وإن رآها سوءا أحجم. إنما هو يعمل، والعاقبة تجيء كما قدر اللّه في غيبه المكنون :
«قُلْ : لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا - إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ - وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ»..
وبهذا الإعلان تتم لعقيدة التوحيد الإسلامية كل خصائص التجريد المطلق، من الشرك في أية صورة من صوره. وتتفرد الذات الإلهية بخصائص لا يشاركها البشر في شيء منها. ولو كان هذا البشر محمدا رسول اللّه وحبيبه ومصطفاه - عليه صلوات اللّه وسلامه - فعند عتبة الغيب تقف الطاقة البشرية، ويقف العلم البشري.
وعند حدود البشرية يقف شخص رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وتتحدد وظيفته « «إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»..
والرسول - صلى اللّه عليه وسلم - نذير وبشير للناس أجمعين. ولكن الذين «يؤمنون» هم الذين ينتفعون بما معه من النذارة والبشارة فهم الذين يفقهون حقيقة ما معه وهم الذين يدركون ما وراء هذا الذي جاء به.
ثم هم بعد ذلك خلاصة البشرية كلها، كما أنهم هم الذين يخلص بهم الرسول من الناس أجمعين..
إن الكلمة لا تعطي مدلولها الحقيقي إلا للقلب المفتوح لها، والعقل الذي يستشرفها ويتقبلها، وإن هذا القرآن لا يفتح كنوزه، ولا يكشف أسراره، ولا يعطي ثماره، إلا لقوم يؤمنون. ولقد ورد عن بعض صحابة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - : كنا نؤتى الإيمان قبل أن نؤتى القرآن.. وهذا الإيمان هو الذي كان يجعلهم يتذوقون القرآن ذلك التذوق، ويدركون معانيه وأهدافه ذلك الإدراك، ويصنعون به تلك الخوارق التي صنعوها في أقصر وقت من الزمان.

(١) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (٣ / ١٤١٠)


الصفحة التالية
Icon