ما الذي يستحق الفرح ؟ (١)
«قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا، هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ»...
فبهذا الفضل الذي آتاه اللّه عباده، وبهذه الرحمة التي أفاضها عليهم من الإيمان.. فبذلك وحده فليفرحوا.
فهذا هو الذي يستحق الفرح. لا المال ولا أعراض هذه الحياة. إن ذلك هو الفرح العلوي الذي يطلق النفس من عقال المطامع الأرضية والأعراض الزائلة، فيجعل هذه الأعراض خادمة للحياة لا مخدومة ويجعل الإنسان فوقها وهو يستمتع بها لا عبدا خاضعا لها. والإسلام لا يحقر أعراض الحياة الدنيا ليهجرها الناس ويزهدوا فيها. إنما هو يزنها بوزنها ليستمتع بها الناس وهم أحرار الإرادة طلقاء اليد، مطمحهم أعلى من هذه الأعراض، وآفاقهم أسمى من دنيا الأرض. الإيمان عندهم هو النعمة، وتأدية مقتضيات الإيمان هي الهدف. والدنيا بعد ذلك مملوكة لهم لا سلطان لها عليهم.
عن عقبة بن الوليد عن صفوان بن عمرو : سمعت أيفع بن عبد اللّه الكلاعي يقول : لما قدم خراج العراق إلى عمر - رضي اللّه عنه - خرج عمر ومولى له، فجعل عمر يعد الإبل فإذا هي أكثر من ذلك، فجعل يقول : الحمد للّه تعالى. ويقول مولاه : هذا واللّه من فضل اللّه ورحمته، فقال عمر : كذبت ليس هذا هو الذي يقول اللّه تعالى :«قُلْ : بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ».
هكذا كان الرعيل الأولون ينظرون إلى قيم الحياة. كانوا يعدون الفضل الأول والرحمة الأولى هي ما جاءهم من اللّه من موعظة وهدى. فأما المال، وأما الثراء، وأما النصر ذاته فهو تابع. لذلك كان النصر يأتيهم، وكان المال ينثال عليهم، وكان الثراء يطلبهم.. إن طريق هذه الأمة واضح. إنه في هذا الذي يسنه لها قرآنها، وفي سيرة الصدر الأول الذين فهموه من رجالها.. هذا هو الطريق.
إن الأرزاق المادية، والقيم المادية، ليست هي التي تحدد مكان الناس في هذه الأرض.. في الحياة الدنيا فضلا عن مكانهم في الحياة الأخرى.. إن الأرزاق المادية، والتيسيرات المادية، والقيم المادية، يمكن أن تصبح من أسباب شقوة البشرية - لا في الآخرة المؤجلة ولكن في هذه الحياة الواقعة - كما نشهد اليوم في حضارة المادة الكالحة!
إنه لا بد من قيم أخرى تحكم الحياة الإنسانية وهذه القيم الأخرى هي التي يمكن أن تعطي للأرزاق المادية والتيسيرات المادية قيمتها في حياة الناس وهي التي يمكن أن تجعل منها مادة سعادة وراحة لبني الإنسان.

(١) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (٣ / ١٧٩٩)


الصفحة التالية
Icon