هناك طريقان طريق مؤد إلى الجنة هذه وطريق مؤد إلى السعير (١)
«إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً»..
يتلقون هذا النطق من الملأ الأعلى. وهو يعدل هذه المناعم كلها، ويمنحها قيمة أخرى فوق قيمتها..
وهكذا ينتهي ذلك العرض المفصل والهتاف الموحي للقلوب، الهتاف إلى ذلك النعيم الطيب والفرار من السلاسل والأغلال والسعير.. وهما طريقان. طريق مؤد إلى الجنة هذه وطريق مؤد إلى السعير! وبعد انتهاء هذا الهتاف إلى الجنة ونعيمها الهنيء الرغيد، يعالج حالة المشركين المصرين على العناد والتكذيب، الذين لا يدركون حقيقة الدعوة، فيساومون عليها الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - لعله يكف عنها، أو عما يؤذيهم منها. وبين المساومة للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - وفتنة المؤمنين به وإيذائهم، والصد عن سبيل اللّه، والإعراض عن الخير والجنة والنعيم.. بين هذا كله يجيء المقطع الأخير في السورة يعالج هذا الموقف بطريقة القرآن الكريم :«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا. فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً. وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا»..
وفي هذه الآيات الأربع تكمن حقيقة كبيرة من حقائق الدعوة الإيمانية. حقيقة ينبغي أن يعيش فيها الدعاة إلى اللّه طويلا، وأن يتعمقوها تعمقا كاملا، وأن ينظروا بتدبر في مدلولاتها الواقعية والنفسية والإيمانية الكبيرة.
لقد كان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - يواجه المشركين بالدعوة إلى اللّه وحده. وهو لم يكن يواجه في نفوسهم مجرد عقيدة. ولو كان الأمر كذلك لكان أيسر كثيرا. فإن عقيدة الشرك المهلهلة التي كانوا عليها لم تكن من القوة والثبات بحيث يصمدون بها هكذا لعقيدة الإسلام القوية الواضحة البسيطة. إنما كانت الملابسات التي تحيط بالعقيدة وبالموقف هي التي تقود إلى تلك المعارضة العنيدة، التي شهدت بها الروايات التاريخية، وحكاها القرآن في مواضع منه شتى.. كانت المكانة الاجتماعية، والاعتزاز بالقيم السائدة في البيئة، وما يتلبس بها كذلك من مصالح مادية.. هي العنصر الأول الذي يقود إلى التشبث بالعقيدة الواهية الظاهرة البطلان، في وجه العقيدة القوية الظاهرة الاستقامة.. ثم كانت صور الحياة الجاهلية ومتاعها ولذائذها وشهواتها إلى جانب ذلك تزيد المقاومة والعناد والتأبي على العقيدة الجديدة، وما فيها من اتجاهات أخلاقية وقيم رفيعة، لا تسمح بانطلاق الغرائز والشهوات ولا بالحياة العابثة الماجنة المطلقة من كوابح الأخلاق.

(١) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (٦ / ٣٧٨٣)


الصفحة التالية
Icon