﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾.
﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ فإذا أراد شيئا قال له كن فيكون كما أراد، كلمح البصر، من غير ممانعة ولا صعوبة.
﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ﴾ من الأمم السابقين الذين عملوا كما عملتم، وكذبوا كما كذبتم ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ أي: متذكر يعلم أن سنة الله في الأولين والآخرين واحدة، وأن حكمته كما اقتضت إهلاك أولئك الأشرار، فإن هؤلاء مثلهم، ولا فرق بين الفريقين.
﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ﴾ أي: كل ما فعلوه من خير وشر مكتوب
عليهم في الكتب القدرية ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ أي: مسطر مكتوب،
وهذا حقيقة القضاء والقدر، وأن جميع الأشياء كلها، قد علمها الله تعالى، وسطرها عنده في اللوح المحفوظ، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ لله، بفعل أوامره وترك نواهيه، الذين اتقوا الشرك والكبائر والصغائر.
﴿فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ﴾ أي: في جنات النعيم، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من الأشجار اليانعة، والأنهار الجارية، والقصور الرفيعة، والمنازل الأنيقة، والمآكل والمشارب اللذيذة، والحور الحسان، والروضات البهية في الجنان، ورضوان الملك الديان، والفوز بقربه، ولهذا قال: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ فلا تسأل بعد هذا عما يعطيهم ربهم من كرامته وجوده، ويمدهم به من إحسانه ومنته، جعلنا الله منهم، ولا حرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا.
تم تفسير سورة اقتربت، ولله الحمد والشكر
تفسير سورة الرحمن
[وهي] مكية
﴿١-١٣﴾ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ * وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
هذه السورة الكريمة الجليلة، افتتحها باسمه "الرَّحْمَنُ" الدال على سعة رحمته، وعموم إحسانه، وجزيل بره، وواسع فضله، ثم ذكر ما يدل على رحمته وأثرها الذي أوصله الله إلى عباده من النعم الدينية والدنيوية [والآخروية وبعد كل جنس ونوع من نعمه، ينبه الثقلين لشكره، ويقول: ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ].
فذكر أنه ﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ أي: علم عباده ألفاظه ومعانيه، ويسرها على عباده، وهذا أعظم منة ورحمة رحم بها عباده، حيث أنزل عليهم قرآنا عربيا بأحسن ألفاظ، وأحسن تفسير، مشتمل على كل خير، زاجر عن كل شر.
﴿خَلَقَ الإنْسَانَ﴾ في أحسن تقويم، كامل الأعضاء، مستوفي الأجزاء، محكم البناء، قد أتقن البديع تعالى (١) البديع خلقه أي إتقان، وميزه على سائر الحيوانات.
بأن ﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ أي: التبيين عما في ضميره، وهذا شامل للتعليم النطقي والتعليم الخطي، فالبيان الذي ميز الله به الآدمي على غيره من أجل نعمه، وأكبرها عليه.
﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ أي: خلق الله الشمس والقمر، وسخرهما يجريان بحساب مقنن، وتقدير مقدر، -[٨٢٩]- رحمة بالعباد، وعناية بهم، وليقوم بذلك من مصالحهم ما يقوم، وليعرف العباد عدد السنين والحساب.
﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ أي: نجوم السماء، وأشجار الأرض، تعرف ربها وتسجد له، وتطيع وتخشع (٢) وتنقاد لما سخرها له من مصالح عباده ومنافعهم.
﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا﴾ سقفها للمخلوقات الأرضية، ووضع الله الميزان أي: العدل بين العباد، في الأقوال والأفعال، وليس المراد به الميزان المعروف وحده، بل هو كما ذكرنا، يدخل فيه الميزان المعروف، والمكيال الذي تكال به الأشياء والمقادير، والمساحات التي تضبط بها المجهولات، والحقائق التي يفصل بها بين المخلوقات، ويقام بها العدل بينهم، ولهذا قال: ﴿أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾ أي: أنزل الله الميزان، لئلا تتجاوزوا الحد في الميزان، فإن الأمر لو كان يرجع إلى عقولكم وآرائكم، لحصل من الخلل ما الله به عليم، ولفسدت السماوات والأرض.
﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ﴾ أي: اجعلوه قائما بالعدل، الذي تصل إليه مقدرتكم وإمكانكم، ﴿وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ أي: لا تنقصوه وتعملوا بضده، وهو الجور والظلم والطغيان.
﴿وَالأرْضَ وَضَعَهَا﴾ الله على ما كانت عليه من الكثافة والاستقرار واختلاف [أوصافها و] أحوالها ﴿لِلأنَامِ﴾ أي: للخلق، لكي يستقروا عليها، وتكون لهم مهادا وفراشا يبنون بها، ويحرثون ويغرسون ويحفرون ويسلكون سبلها فجاجا، وينتفعون بمعادنها وجميع ما فيها، مما تدعو إليه حاجتهم، بل ضرورتهم.
ثم ذكر ما فيها من الأقوات الضرورية، فقال: ﴿فِيهَا فَاكِهَةٌ﴾ وهي جميع الأشجار التي تثمر الثمرات التي يتفكه بها العباد، من العنب والتين والرمان والتفاح، وغير ذلك، ﴿وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ﴾ أي: ذات الوعاء الذي ينفلق عن القنوان التي تخرج شيئا فشيئا حتى تتم، فتكون قوتا يؤكل ويدخر، يتزود منه المقيم والمسافر، وفاكهة لذيذة من أحسن الفواكه.
﴿وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ﴾ أي: ذو الساق الذي يداس، فينتفع بتبنه للأنعام وغيرها، ويدخل في ذلك حب البر والشعير والذرة [والأرز] والدخن، وغير ذلك، ﴿وَالرَّيْحَانُ﴾ يحتمل أن المراد بذلك جميع الأرزاق التي يأكلها الآدميون، فيكون هذا من باب عطف العام على الخاص، ويكون الله قد امتن على عباده بالقوت والرزق، عموما وخصوصا، ويحتمل أن المراد بالريحان، الريحان المعروف، وأن الله امتن على عباده بما يسره في الأرض من أنواع الروائح الطيبة، والمشام الفاخرة، التي تسر الأرواح، وتنشرح لها النفوس.
ولما ذكر جملة كثيرة من نعمه التي تشاهد بالأبصار والبصائر، وكان الخطاب للثقلين، الإنس والجن، قررهم تعالى بنعمه، فقال: ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ أي: فبأي نعم الله الدينية والدنيوية تكذبان؟
وما أحسن جواب الجن حين تلا عليهم النبي ﷺ هذه السورة، فما مر بقوله: ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ إلا قالوا (٣) ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد، فهذا الذي ينبغي (٤) للعبد إذا تليت عليه نعم الله وآلاؤه، أن يقر بها ويشكر، ويحمد الله عليها.
(٢) في ب: وتخضع.
(٣) في ب: فكلما مر بقوله: "فبأي آلاء ربكما تكذبان" قالوا.
(٤) في ب: فهكذا ينبغي.