قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ﴾ ؛ أي إنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحُ يومِ أُحُد فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ يَوْمَ بَدْر، وذلكَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ وأصحابَه كانوا قَتَلُواْ من المشركين يَوْمَ بدر سبعونَ رجُلاً وأسَرُوا سبعينَ، وقُتِلَ يومَ أُحُدٍ مِن أصحاب النبيِّ ﷺ سبعونَ وجُرِحَ سبعونَ.
وقرأ مُحَمَّدُ بن السُّمَيْقَعِ (قَرَحٌ) بفتحِ القاف والراءِ على المصدر. وقرأ الأعمشُ وعاصم وحمزةُ والكسائيُّ وخلفُ : بضمِّ القاف فيهما ؛ وهي قراءةُ ابنِ مسعودٍ. وقرأ الباقون بفتحِ القاف وهي قراءةُ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وهما لُغَتَانِ مثلُ الْجَهْدِ وَالْجُهْدِ، وقال بعضهم :(الْقَرْحُ) بفتحِ القاف : الجِرَاحَاتُ واحدتُها قَرْحَةٌ، و(الْقُرْحُ) بالضمِّ وجعٌ، يقالُ قُرِحَ الرجلُ إذا وُجِعَ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ ؛ أي تارةً لَهم وتارةً عليهم، وأدَالَ المسلمونَ على المشركينَ يومَ بدر، حتى قَتَلُوا منهم سبعينَ وأسَرُوا سبعين، وأدَالَ المشركون يوم أحُدٍ، حتى جَرَحُوا سبعين وقَتَلُوا خمسةً وسبعين. قال أنسُ بن مالكٍ رضي الله عنه :(أتِيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِعَلِيٍّ رضي الله عنه يَوْمَئِذٍ، وَعَلَيْهِ نيِّفٌ وَسِتُّونَ جِرَاحَةً مِنْ طَعْنَةٍ وضَرْبَةٍ وَرَمْيَةٍ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَمْسَحُهَا بيَدِهِ وَهِيَ تَلْتَئِمُ بإذْنِ اللهِ فَكَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ ؛ بَيَّنَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ المعنَى الذي لأجلهِ يُدَاولُ الأيَّامَ بين المؤمنين والكفَّار، فقالَ ﴿ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ معناهُ : لِيَرَى من يُقِيْمُ على الإيْمانِ مِمَّن لا يقيمُ ؛ فيظهرُ المؤمنُ المخلِصُ ؛ والذي في قَلْبهِ مَرَضٌ. وقال الزجَّاج :(مَعْنَاهُ : لِيْعَلْمَ اللهُ عِلْمَ مُشَاهَدَةٍ بَعْدَ مَا كَانَ عِلْمُهُ عِلْمَ الْغَيْب ؛ لأنَّ الْعِلْمَ الَّذِي عَلِمَهُ اللهُ قَبْلَ وُقُوعِ الشّيْءِ لاَ يَجِبُ بهِ الْمُجَازَاةُ مَا لَمْ يَقَعْ). وأما الواوُ في قولهِ :﴿ وَلِيَعْلَمَ ﴾ : واوُ العطفِ على خبرٍ محذوف ؛ تقديرهُ :﴿ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ بضروبٍ من التَّدبيرِ، ﴿ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ ﴾ المؤمنينَ مُتَمَيِّزِيْنَ من المنافِقينَ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ ﴾ ؛ أي يُكْرِمُهُمْ بالشَّهادةِ، وقال بعضُهم : معناهُ : ويجعلَكُم شهداءَ على الناسِ على معاصِيهم لإجلالِكُم وتعظِيمكُم، ثم قالَ تعالى :﴿ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ أي لا يفعلُ اللهُ ذلك لِحُب الظالمين، فإنهُ لا يُحِبُّ الظالمينَ، وفي هذا بيانُ أنَّ اللهَ لا ينصرُ الكافرين على المسلمين، إذِ النُّصْرَةُ تدلُّ على الْمَحَبَّةِ، واللهُ لا يحبُّ الكُفَّارَ، ولكنْ قد ينصرُ المسلمينَ في بعض الأوقاتِ على الكفَّار، وفي بعضِ الأوقات يَكِلُ المسلمينَ إلى حَوْلِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ لذنبٍ كان حصلَ منهم، وإنَّما جعلَ اللهُ الدُّنيا مُتَقَلِبَةً لِئلاَّ يَطْمَئِنَّ المسلمون إليها لِتَقَلُّبهَا، ولكنهم يسعونَ للآخرة الَّتي يكونُ نعيمُها إلى الأبدِ.