قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ ؛ أي ليس ثوابُ الله تعالى بأمَانِيِّكُمْ، فإنَّ (لَيْسَ) يقتضِي اسْماً، واختلفُوا في المخاطَبين بهذه الآيةِ، قال قتادةُ والضحَّاك :(إنَّ أهْلَ الْكِتَاب وَالْمُسْلِمِيْنَ افْتَخَرُواْ، فَقَالَ أهْلُ الْكِتَاب : نَبيَّنَا قَبْلَ نَبيِّكُمْ ؛ وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابكُمْ ؛ وَنَحْنُ أوْلَى باللهِ مِنْكُمْ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : نَحْنُ أوْلَى باللهِ مِنْكُمْ ؛ نَبيُّنَا خَاتَمُ النَّبيِّيْنَ ؛ وَكِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُب الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةََ).
وقال مجاهدُ :(الْمُخَاطَبُونَ بهَا عَبَدَةُ الأوْثَانِ ؛ فإنَّهُمْ قَالُواْ : لاَ نُبْعَثُ وَلاَ نُحَاسَبُ، وَقَالَ أهْلُ الْكِتَاب : لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أيَّاماً مَعْدُودَةً، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى :﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾. ﴿ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ ؛ ولا يَنْفَعُهُ تَمَنِّيْهِ، والمرادُ بالسُّوءِ الكُفْرُ.
وقال بعضُهم : المخاطَب بها المسلمونَ ؛ أي (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بهِ) أي ليسَ بأمَانِيِّكُمْ يا معشرَ المسلمين أنْ لا تُؤَاخَذُواْ بسُوءٍ بعد الإيْمانِ، ﴿ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ : لاَ يَدْخُلُ الجنَّةَ إلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أوْ نَصَارَى، من يعمَلْ معصيةًُ يُجْزَ بذلكَ ولا ينفعه تَمنِّيه.
روي : أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ؛ قَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :" يَا رَسُولَ اللهِ ؛ كَيْفَ الْفَلاَحُ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ ؟ فَقَالَ ﷺ :" غَفَرَ اللهُ لَكَ يَا أبَا بَكْرٍ ؛ ألَسْتَ تَمْرَضُ ؟ ألَسْتَ تَنْصَبُ ؟ ألَسْتَ تُصِيْبُكَ الَّلأْوَاءُ ؟ " قَالَ : بَلَى، " فَهُوَ مَا تُجْزَونَ بهِ ".
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنهُ قَالَ :" لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ شُقَّ ذلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِيْنَ، فَشَكَواْ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ :" قَارِبُواْ وَسَدِّدُواْ ". يقالُ : كلُّ ما يصيبُ المؤمنَ كفَّارَةٌ حتى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا في قدميهِ، والنَّكْبَةَ يَنْكَبُّهَا ".
قال عطاءُ :(لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ قَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :" هَذِهِ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ يَا رَسُولَ اللهِ ؛ وَأيَّنَا لَمْ يَعْمَلُ سُوءاً، وَإنَّا لَمَجْزِيُّونَ بكُلِّ سُوءٍ عَمِلْنَاهُ؟! قَالَ :" إنَّمَا هِيَ الْمُصِيْبَاتِ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا ". فَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ : فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ بَكَيْنَا وَحَزِنَّا وَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَا أبْقَتْ هَذَهِ الآيَةِ مِنْ شَيْءٍ، " أمَا وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ ؛ لَكُمَا أنْزِلَتْ ؛ وَلَكِنْ يًسِّرُواْ وَقَارِبُواْ وَسَدِّدُواْ ؛ إنَّهُ لاَ يُصِيْبَ أحَدُكُمْ مُصِيْبَةً فِي الدُّنْيَا إلاَّ كَفَّرَ عَنْهُ بهَا خَطِيْئَةً ؛ حَتَّى الشّوءكَةَ يُشَاكُهَا فِي قًدَمِهِ ".
وقال الحسنُ في قولهِ تعالى :﴿ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ قال (الْكَافِرُ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلاَ يُجَازَى يَوْمَ الْقيَامَةِ إلاَّ بأَحْسَنِ عَمَلِهِ وَيُتَجَاوَزُ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ) ثُمَّ قَرَأَ﴿ لِيُكَـفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَـانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾[الزمر : ٣٥] وقَرَأ﴿ وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ ﴾[سبأ : ٣٥].
ولولا السُّنة لأمكنَ ان يقالَ : إنَّ الآيةَ تنزلت في الكفَّار ؛ لأنَّ في سياقِ الآية :﴿ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾ ؛ ومَنْ لم يكن لهُ يومَ القيامةِ ولِيٌّ ولا نصيرٌ كان كافراً ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قد ضَمِنَ نصرَ المؤمنين في الدَّارَين فقالَ تعالى :﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ﴾[غافر : ٥١]. ولكنَّ الخطابَ إذا وَرَدَ مُجْمَلاً، وبَيَّنَ الرَّسُولُ عليه السلام كَانَ الْحُكمُ لِبَيَانِهِ لاَ لِلآيَةِ ؛ إذِ البَيَانُ إلَيْهِ ﷺ، قال اللهُ تعالى :﴿ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾[النحل : ٤٤].


الصفحة التالية
Icon