قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :" وَذلِكَ أنَّ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ قَالُواْ فِيْمَا بَيْنَهُمْ : تَعَالَوا نَبْنِي مَسْجِداً يَكُونُ مُتَحَدَّثَنَا وَمَجْمَعَ رَأينَا بأَنْ تَأْتُوا إلَى رَسُولِ اللهِ وَتَسْتَأْذِنُوهُ أنْ نَبْنِي مَسْجِداً لِذوي الْعِلَِّةِ وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ. فَأَذِنَ لَهُمْ فَبَنَوا مَسْجِداً، وَكَانَ يَؤُمُّهُمْ فِي ذلِكَ الْمَسْجِدِ مَجْمَعُ بْنُ الْحَارِثَةِ، وَكَانَ قَارئاً لِلْقُرْآنِ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). ومعناها : والذين اتَّخَذُوا مسجداً للضِّرارِ والكُفرِ والتفريقِ بين المؤمنين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ﴾ أي وانتِصاراً لِمَن حاربَ اللهَ ورسولَهُ، وهو أبو عامرِ الراهب كان حارَبَ النبيُّ ﷺ قبلَ بناءِ هذا المسجدِ، ومضَى إلى هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ يستعينُ به على النبيِّ ﷺ وأصحابهِ، فسماهُ رسولُ اللهِ ﷺ فَاسِقاً، قال :" لاَ تُسَمُّوهُ الرَّاهِبَ "، وَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَمَاتَ كَافِراً بقِنِسْرِينَ مَوْضِعٌ بالشَّامِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى ﴾ ؛ معناهُ : ليحلفَ المنافقون أنَّا لم نُرِدْ ببناءِ هذا المسجدِ إلا الخيرَ، وهم كَذبَةٌ في حلفِهم لقولهِ تعالى :﴿ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ ؛ ما بَنَوْهُ للخيرِ.
" روي أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُهَاجِراً أقْبَلَ إلَيْهِ أبُو عَامِرٍ هَذا الْمَذْكُورُ فَقَالَ لَهُ : مَا هَذا الَّذِي جِئْتَ بهِ ؟ قَالَ :" الْحَنِيفِيَّةُ دِينُ إبْرَاهيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ " قَالَ أبُو عَامِرٍ : وَأنَا عَلَيْهَا، فَقَالَ النَّبيُّ ﷺ :" فَإنَّكَ لَسْتَ عَلَيْهَا " قَالَ : بَلَى ؛ وَلَكِنَّكَ أدْخَلْتَ فِي الْحَنِيفِيَّةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا، فَقَالَ النَّبيُّ ﷺ :" مَا فَعَلْتُ ذلِكَ، وَلَكِنْ جِئْتُ بهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً " فَقَالَ أبُو عَامِرٍ : أمَاتَ اللهُ الْكَاذِبَ مِنَّا طَرِيداً وَحيداً غَرِيباً، فقال ﷺ :" آمِينَ " فَسَمَّاهُ أبُو عَامرِ الفَاسِقِ. فَلَمْ يَزَلْ أبُو عَامِرٍ كَذِلَك إلَى أنْ هُزِمَتْ هَوَازِنُ، فَخَرَجَ هَارِباً إلَى الشَّامِ فَأَرْسَلَ إلَى الْمُنَافِقِينَ أنِ اسْتَعِدُّوا بمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَسِلاَحٍ وَابْنُوا لِي مَسْجِداً، فَإنِّي ذاهِبٌ إلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ، وَآتٍ بجُنْدٍ مِنَ الرُّومِ وَأخْرِجُ مُحَمَّداً ﷺ وَأصْحَابَهُ. فَبَنَوا مَسْجِداً إلَى جَنْبِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَكَانَ الَّذِينَ بَنَوْهُ اثْنَى عَشَرَ رَجُلاً.
فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْهُ أتَوا رَسُولَ اللهِ ﷺ وَهُوَ مُتَجَهِّزٌ إلَى تَبُوكَ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ إنَّا قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِداً لِذوِي الْعِلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَاللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، وَإنَّا نُحِبُّ أنْ تَأْتِيَهُ فَتُصَلِّيَ لَنَا فِيْهِ وَتَدْعُوَ لَنَا بالْبَرَكَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ :" إنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ وَحَالِ شُغْلٍ، وَلَوْ قَدِمْنَا لأتَيْنَاكُمْ إنْ شَاءَ اللهُ فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيْهِ ".
فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ تَبُوكٍ أتَوْهُ فَسَأَلُوهُ إتْيَانَ مَسْجِدِهِمْ، فَدَعَا بقَمِيصِهِ لِيَلْبَسَهُ وَيَأتِيَهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَأعْلَمَهُ اللهُ تَعَالَى بخَبَرِهِمْ وَمَا هَمُّوا بهِ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ ﷺ مَالِكَ بْنَ الدَّهْشَمِ وَمَعَنَ بْنَ عَدِيٍّ وَعَامِرَ بْنَ السَّكَنِ وَالْوَحْشِيَّ قَاتِلَ حَمْزَةَ، وَقَالَ لَهُمْ :" انْطَلِقُوا إلَى هَذا الْمَسْجِدِ الظَّالِمِ أهْلُهُ فاهْدُمُوهُ وَحَرِّقُوهُ " فَخَرَجُواْ سِرَاعاً، فَأَخَذُوا سَعْفاً مِنَ النَّخْلِ، وَأشْعَلُواْ فِيْهِ النَّار وَهَدَمُوهُ، وَأَمَرَ النَّبيُّ ﷺ أنْ يُتَّخَذ كِنَاسَةً يُلْقَى فِيْهِ الْقِمَامَةُ وَالْجِيَفُ، وَمَاتَ أبُو عَامِرٍ بالشَّامِ وَحِيداً غَرِيباً. "