﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾ ؛ وذلك أنَّ فئةً من قريشٍ خرَجُوا تُجَّاراً إلى أرضِ النجاشيِّ، فسَارُوا حتى دَنَوا من ساحلِ البحرِ، ثم نزَلوا بحضرةِ بيتٍ، وكان ذلك البيتُ مُصلَّى للنجاشيِّ وقومهِ من النَّصارى، فأجَّجُوا ناراً استعمَلُوها لبعضِ ما احتاجوا إليه، ثم رحَلُوا ولم يُطفِئوا تلك النار، وكان ذلك في يومٍ عاصف، فهاجَتِ الريحُ فاحترقَ البيتُ الذي كان مُصلَّى للنجاشيِّ، وكانوا يعظِّمون ذلك البيتَ كتعظيمِ العرب الكعبةَ، فقَصدُوا بذلك السبب مكَّة عازمين على تحريقِ بيتِ الله تعالى، ويستبيحُوا أهلَ مكَّة.
فبعثَ النجاشيُّ أبرهةَ، فخرج أبرهةُ في سائرِ الحبشة، وخرجَ معه بالفيلِ، فسَمعتْ بذلك العربُ، فأعظَموهُ ورأوا جهادَهُ حقّاً عليهم حين سَمعوا أنه يريدُ هدمَ الكعبةِ، فخرجَ إليه ملِك من مُلوك حِميَرَ يقالُ له ذو نَفَرْ، فدعَا قومَهُ ومن أجابَهُ من العرب إلى حرب أبرهةَ وجهادهِ، فأجابَهُ من أجابَهُ فقاتلَهُ، فهُزِمَ ذو نفَرٍ وأصحابهُ، وأُخِذ ذُو نفر أسيراً، فلما أرادَ أبرهةُ أن يقتلَهُ قال له ذو نفر : لا تَقتُلني فإنِّي عسَى أن يكون بقائِي معكَ خيراً لكَ من قتلِي، فتركَهُ من القتلِ وحبسَهُ معه في وثاقٍ، وكان أبرهةُ رجُلاً حَليماً.
ثم مضَى أبرهةُ على وجههِ للذي يريدُ، حتى إذا كان بأرضِ خَثْعَمَ عرضَ له نُفيل بن حبيبٍ الخثعميُّ فقاتلَهُ فهزمَهُ أبرهةُ، وأُخِذ نُفيل أسيراً وأُتِيَ به إلى أبرهةَ، فلما هَمَّ بقتلهِ قال له : لا تقتُلنِي فإنِّي دليلُكَ في أرضِ العرب، فخَلَّى سبيلَهُ، وخرجَ معه يدُلُّهُ. حتى إذا مرَّ بالطائفِ خرجَ إليه مسعودُ الثقفيُّ في رجالٍ من ثقيفٍ، فقالوا له : أيُّها الملكُ ؛ إنما نحن عبيدُكَ سامِعون لك مطيعون، ليس لنا عندَكَ خلافٌ، وليس بينَنا هذا الذي تريدُ هدمَهُ - يعنون اللاَّتَ - إنما تريدُ البيتَ الذي بمكَّة، ونحنُ نبعث معكَ مَنْ يدلُّكَ عليه، فتجاوزَ عنهم، واللاتُ بيتٌ لَهم بالطائفِ كانوا يعظِّمونه نحو تعظيمِهم الكعبةَ.
قال ابنُ اسحق : فبَعَثُوا معه أبَا رغالٍ يدلُّه على الطريقِ إلى مكَّة، فخرجَ أبرهَةُ ومعه أبو رغَالَ، فهنالِكَ رجَمتِ العربُ قَبْرَهُ، فهو القبرُ الذي يُرجم بالْمَغْمَسِ، فلما نزلَ أبرهةُ بالمغمسِ بعثَ رجلاً من الحبشةِ يقال له : الأسودُ بن مقصودٍ، على خيلٍ له حتى انتهى إلى مكَّة، فسَاقَ إليه أموالَ أهلِ يَمامة من قريشٍ وغيرِهم، وأصابَ فيها مِائتي بعيرٍ لعبدِ المطَّلب بن هاشمِ، وهو يومئذٍ كبيرُ قريش وسيِّدُها، فهَمَّت قريشُ وكِنانَةُ وهُذيل ومَن كان بذلك الحرمِ أن يُقاتِلُوه، ثم عرَفُوا أنه لا طاقةَ لهم به فترَكُوا ذلك.
وبعثَ أبرهةُ حناطةَ الْحِمْيَرِي إلى مكَّة وقال له : سَلْ عن سيِّد هذا البلدِ وشريفِهم، وقل له : إنِّي لم آتِ لحربكم، إنما جئتُ لهدمِ هذا البيتِ، فإن لم تعرُضوا دونَهُ بحربٍ فلا حاجةَ لي بدمائِكم، فإنْ هو لم يُرِدْ حَربي فأتِني به.


الصفحة التالية
Icon