﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً * كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ * كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾.
﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ لأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى، وهؤلاء لا يرضى الله أعمالهم (١). فلما بين الله مآل المخالفين، ورهب مما (٢) يفعل بهم، عطف على الموجودين بالعتاب واللوم، فقال: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ أي: صادين غافلين عنها. ﴿كَأَنَّهُمْ﴾ في نفرتهم الشديدة منها ﴿حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ﴾ أي: كأنهم حمر وحش نفرت فنفر بعضها بعضا، فزاد عدوها، ﴿فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾ أي: من صائد ورام يريدها، أو من أسد ونحوه، وهذا من أعظم ما يكون من النفور عن الحق، ومع هذا الإعراض وهذا النفور، يدعون الدعاوى الكبار.
فـ ﴿يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً﴾ نازلة عليه من السماء، يزعم أنه لا ينقاد للحق إلا بذلك، وقد كذبوا، فإنهم لو جاءتهم كل آية لم يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، فإنهم جاءتهم الآيات البينات التي تبين الحق وتوضحه، فلو كان فيهم خير لآمنوا، ولهذا قال: ﴿كَلا﴾ أن نعطيهم ما طلبوا، وهم ما قصدوا بذلك إلا التعجيز، ﴿بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ﴾ فلو كانوا يخافونها لما جرى منهم ما جرى.
﴿كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ﴾ الضمير إما أن يعود على هذه السورة، أو على ما اشتملت عليه [من] هذه الموعظة، ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴾ لأنه قد بين له السبيل، ووضح له الدليل.
﴿وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ فإن مشيئته (٣) نافذة عامة، لا يخرج عنها حادث قليل ولا كثير، ففيها رد على القدرية، الذين لا يدخلون أفعال العباد تحت مشيئة الله، والجبرية الذين يزعمون أنه ليس للعبد مشيئة، ولا فعل حقيقة، وإنما هو مجبور على أفعاله، فأثبت تعالى للعباد مشيئة حقيقة وفعلا وجعل ذلك تابعا لمشيئته، ﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾ أي: هو أهل أن يتقى ويعبد، لأنه الإله الذي لا تنبغي العبادة إلا له، وأهل أن يغفر لمن اتقاه واتبع رضاه. تم تفسير سورة المدثر ولله الحمد (٤).
تفسير سورة القيامة
[وهي] مكية

(١) كذا في ب، وفي أ: ولا يرضى أعمالهم.
(٢) في ب: وبين ما يفعل بهم.
(٣) في ب: فإن مشيئة الله.
(٤) في ب: تمت ولله الحمد والمنة.

﴿١ - ٦﴾ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾.
ليست ﴿لا﴾ [ها] هنا نافية، [ولا زائدة] وإنما أتي بها للاستفتاح والاهتمام بما بعدها، ولكثرة الإتيان بها مع اليمين، لا يستغرب الاستفتاح بها، وإن لم تكن في الأصل موضوعة للاستفتاح.
فالمقسم به في هذا الموضع، هو المقسم عليه، وهو البعث بعد الموت، وقيام الناس من قبورهم، ثم وقوفهم ينتظرون ما يحكم به الرب عليهم.
﴿وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ وهي جميع النفوس الخيرة والفاجرة، سميت ﴿لوامة﴾ لكثرة ترددها وتلومها وعدم ثبوتها على حالة من أحوالها، ولأنها عند الموت تلوم صاحبها على ما عملت (١)، بل نفس المؤمن تلوم صاحبها في الدنيا على ما حصل منه، من تفريط أو تقصير في حق من الحقوق، أو غفلة، فجمع بين الإقسام بالجزاء، وعلى الجزاء، وبين مستحق الجزاء.
ثم أخبر مع هذا، أن بعض المعاندين يكذب بيوم القيامة، فقال: ﴿أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أن لَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ﴾ بعد الموت، كما قال في الآية الأخرى: ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ ؟ فاستبعد من جهله وعدوانه قدرة الله على خلق عظامه التي هي عماد البدن، فرد عليه بقوله: ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ أي: أطراف أصابعه وعظامه، المستلزم ذلك لخلق جميع أجزاء البدن، لأنها إذا وجدت الأنامل والبنان، فقد تمت خلقة الجسد، وليس إنكاره لقدرة الله تعالى قصورا بالدليل الدال على ذلك، وإنما [وقع] ذلك منه أن قصده وإرادته أن يكذب (٢) بما أمامه من البعث. والفجور: الكذب مع التعمد.
-[٨٩٩]-
ثم ذكر أحوال القيامة فقال:
(١) في ب: على ما فعلت.
(٢) في ب: لأن إرادته وقصده التكذيب.


الصفحة التالية
Icon