﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾.
﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ أي: تقدمونها على الآخرة، وتختارون نعيمها المنغص المكدر الزائل على الآخرة.
﴿وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ وللآخرة خير من الدنيا في كل وصف مطلوب، وأبقى لكونها دار خلد وبقاء وصفاء، والدنيا دار فناء، فالمؤمن العاقل لا يختار الأردأ على الأجود، ولا يبيع لذة ساعة، بترحة الأبد، فحب الدنيا وإيثارها على الآخرة رأس كل خطيئة.
﴿إِنَّ هَذَا﴾ المذكور لكم في هذه السورة المباركة، من الأوامر الحسنة، والأخبار المستحسنة ﴿لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ اللذين هما أشرف المرسلين، سوى (١) النبي محمد صلى الله وسلم عليه وسلم.
فهذه أوامر في كل شريعة، لكونها عائدة إلى مصالح الدارين، وهي مصالح في كل زمان ومكان.
تم تفسير سورة سبح، ولله الحمد
تفسير سورة الغاشية
وهي مكية
﴿١ - ١٦﴾ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾.
يذكر تعالى أحوال يوم القيامة وما فيها من الأهوال الطامة، وأنها تغشى الخلائق بشدائدها، فيجازون بأعمالهم، ويتميزون [إلى] فريقين: فريقًا في الجنة، وفريقًا في السعير. -[٩٢٢]-
فأخبر عن وصف كلا الفريقين، فقال في [وصف] أهل النار: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ﴾ أي: يوم القيامة ﴿خَاشِعَة﴾ من الذل، والفضيحة والخزي.
﴿عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ﴾ أي: تاعبة في العذاب، تجر على وجوهها، وتغشى وجوههم النار.
ويحتمل أن المراد [بقوله:] ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ﴾ في الدنيا لكونهم في الدنيا أهل عبادات وعمل، ولكنه لما عدم شرطه وهو الإيمان، صار يوم القيامة هباء منثورا، وهذا الاحتمال وإن كان صحيحًا من حيث المعنى، فلا يدل عليه سياق الكلام، بل الصواب المقطوع به هو الاحتمال الأول، لأنه قيده بالظرف، وهو يوم القيامة، ولأن المقصود هنا بيان وصف أهل النار عمومًا، وذلك الاحتمال جزء قليل من أهل النار بالنسبة إلى أهلها (١) ؛ ولأن الكلام في بيان حال الناس عند غشيان الغاشية، فليس فيه تعرض لأحوالهم في الدنيا.
وقوله: ﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾ أي: شديدًا حرها، تحيط بهم من كل مكان، ﴿تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾ أي: حارة شديدة الحرارة ﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ﴾ فهذا شرابهم.
وأما طعامهم فـ ﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ﴾ وذلك أن المقصود من الطعام أحد أمرين: إما أن يسد جوع صاحبه ويزيل عنه ألمه، وإما أن يسمن بدنه من الهزال، وهذا الطعام ليس فيه شيء من هذين الأمرين، بل هو طعام في غاية المرارة والنتن والخسة نسأل الله العافية.
وأما أهل الخير، فوجوههم يوم القيامة ﴿نَاعِمَةٌ﴾ أي: قد جرت عليهم نضرة النعيم، فنضرت أبدانهم، واستنارت وجوههم، وسروا غاية السرور.
﴿لِسَعْيِهَا﴾ الذي قدمته في الدنيا من الأعمال الصالحة، والإحسان إلى عباد الله، ﴿رَاضِيَةٌ﴾ إذ وجدت ثوابه مدخرًا مضاعفًا، فحمدت عقباه، وحصل لها كل ما تتمناه، وذلك أنها ﴿فِي جَنَّةٍ﴾ جامعة لأنواع النعيم كلها، ﴿عَالِيَةٍ﴾ في محلها ومنازلها، فمحلها في أعلى عليين، ومنازلها مساكن عالية، لها غرف ومن فوق الغرف غرف مبنية يشرفون منها على ما أعد الله لهم من الكرامة.
﴿قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ﴾ أي: كثيرة الفواكه اللذيذة، المثمرة بالثمار الحسنة، السهلة التناول، بحيث ينالونها على أي: حال كانوا، لا يحتاجون أن يصعدوا شجرة، أو يستعصي عليهم منها ثمرة.
﴿لا تَسْمَعُ فِيهَا﴾ أي: الجنة ﴿لاغِيَةً﴾ أي: كلمة لغو وباطل، فضلا عن الكلام المحرم، بل كلامهم كلام حسن [نافع] مشتمل على ذكر الله تعالى، وذكر نعمه المتواترة عليهم، و [على] الآداب المستحسنة (٢) بين المتعاشرين، الذي يسر القلوب، ويشرح الصدور.
﴿فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ﴾ وهذا اسم جنس أي: فيها العيون الجارية التي يفجرونها ويصرفونها كيف شاءوا، وأنى أرادوا.
﴿فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ﴾ و " السرر " جمع " سرير " وهي المجالس المرتفعة في ذاتها، وبما عليها من الفرش اللينة الوطيئة.
﴿وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ﴾ أي: أوان ممتلئة من أنواع الأشربة اللذيذة، قد وضعت بين أيديهم، وأعدت لهم، وصارت تحت طلبهم واختيارهم، يطوف بها عليهم الولدان المخلدون.
﴿وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ﴾ أي: وسائد من الحرير والاستبرق وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله، قد صفت للجلوس والاتكاء عليها، وقد أريحوا عن أن يضعوها، ويصفوها بأنفسهم.
﴿وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾ والزرابي [هي:] البسط الحسان، مبثوثة أي: مملوءة بها مجالسهم من كل جانب.
(٢) في ب: الحسنة.