﴿٢١ - ٣٠﴾ ﴿كَلا إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾.
﴿كَلا﴾ أي: ليس [كل] ما أحببتم من الأموال، وتنافستم فيه من اللذات، بباق لكم، بل أمامكم يوم عظيم، وهول جسيم، تدك فيه الأرض والجبال وما عليها حتى تجعل قاعًا صفصفًا لا عوج فيه ولا أمت.
ويجيء الله تعالى لفصل القضاء بين عباده في ظلل من الغمام، وتجيء الملائكة الكرام، أهل السماوات كلهم، صفًا صفا أي: صفًا بعد صف، كل سماء يجيء ملائكتها صفا، يحيطون بمن دونهم من الخلق، وهذه الصفوف صفوف خضوع وذل للملك الجبار.
﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾ تقودها الملائكة بالسلاسل.
فإذا وقعت هذه الأمور فـ ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ﴾ ما قدمه من خير وشر.
﴿وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾ فقد فات أوانها، وذهب زمانها، يقول متحسرًا على ما فرط في جنب الله: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ الدائمة الباقية، عملا صالحًا، كما قال تعالى:
﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾.
﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا﴾.
وفي الآية دليل على أن الحياة التي ينبغي السعي في أصلها وكمالها (١)، وفي تتميم لذاتها، هي الحياة في دار القرار، فإنها دار الخلد والبقاء.
﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ﴾ لمن أهمل ذلك اليوم ونسي العمل له.
﴿وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾ فإنهم يقرنون بسلاسل من نار، ويسحبون على وجوههم في الحميم، ثم في النار يسجرون، فهذا جزاء المجرمين، وأما من اطمأن إلى الله وآمن به وصدق رسله، فيقال له: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ إلى ذكر الله، الساكنة [إلى] حبه، التي قرت عينها بالله.
﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ﴾ الذي رباك بنعمته، وأسدى عليك من إحسانه ما صرت به من أوليائه وأحبابه ﴿رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ أي: راضية عن الله، وعن ما أكرمها به من الثواب، والله قد رضي عنها.
﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ وهذا تخاطب به الروح يوم القيامة، وتخاطب به حال الموت (٢) [والحمد لله رب العالمين].
تفسير سورة لا أقسم
بهذا البلد مكية (٣)
(٢) في ب: وقت السياق والموت.
(٣) في ب: سورة البلد.
﴿١ - ٢٠﴾ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ﴾.
يقسم تعالى ﴿بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ -[٩٢٥]- الأمين، الذي هو مكة المكرمة، أفضل البلدان على الإطلاق، خصوصًا وقت حلول الرسول ﷺ فيها، ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾ أي: آدم وذريته.
والمقسم عليه قوله: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ يحتمل أن المراد بذلك ما يكابده ويقاسيه من الشدائد في الدنيا، وفي البرزخ، ويوم يقوم الأشهاد، وأنه ينبغي له أن يسعى في عمل يريحه من هذه الشدائد، ويوجب له الفرح والسرور الدائم.
وإن لم يفعل، فإنه لا يزال يكابد العذاب الشديد أبد الآباد.
ويحتمل أن المعنى: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، وأقوم خلقة، مقدر (١) على التصرف والأعمال الشديدة، ومع ذلك، [فإنه] لم يشكر الله على هذه النعمة [العظيمة]، بل بطر بالعافية وتجبر على خالقه، فحسب بجهله وظلمه أن هذه الحال ستدوم له، وأن سلطان تصرفه لا ينعزل، ولهذا قال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾ ويطغى ويفتخر بما أنفق من الأموال على شهوات نفسه. فـ ﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا﴾ أي: كثيًرا، بعضه فوق بعض.
وسمى الله تعالى الإنفاق في الشهوات والمعاصي إهلاكًا، لأنه لا ينتفع المنفق بما أنفق، ولا يعود عليه من إنفاقه إلا الندم والخسار والتعب والقلة، لا كمن أنفق في مرضاة الله في سبيل الخير، فإن هذا قد تاجر مع الله، وربح أضعاف أضعاف ما أنفق.
قال الله متوعدًا هذا الذي يفتخر بما أنفق في الشهوات: ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾ أي: أيحسب (٢) في فعله هذا، أن الله لا يراه ويحاسبه على الصغير والكبير؟
بل قد رآه الله، وحفظ عليه أعماله، ووكل به الكرام الكاتبين، لكل ما عمله من خير وشر.
ثم قرره بنعمه، فقال: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ﴾ للجمال والبصر والنطق، وغير ذلك من المنافع الضرورية فيها، فهذه نعم الدنيا، ثم قال في نعم الدين: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن﴾ أي: طريقي الخير والشر، بينا له الهدى من الضلال، والرشد من الغي.
فهذه المنن الجزيلة، تقتضي من العبد أن يقوم بحقوق الله، ويشكر الله على نعمه، وأن لا يستعين بها على معاصيه (٣)، ولكن هذا الإنسان لم يفعل ذلك.
﴿فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ﴾ أي: لم يقتحمها ويعبر عليها، لأنه متبع لشهواته (٤).
وهذه العقبة شديدة عليه، ثم فسر [هذه] العقبة ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ أي: فكها من الرق، بعتقها أو مساعدتها على أداء كتابتها، ومن باب أولى فكاك الأسير المسلم عند الكفار.
﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ أي: مجاعة شديدة، بأن يطعم وقت الحاجة أشد الناس حاجة.
﴿يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ﴾ أي: جامعًا بين كونه يتيمًا، فقيرًا ذا قرابة.
﴿أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ أي: قد لزق بالتراب من الحاجة والضرورة.
﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (٥) أي: آمنوا بقلوبهم بما يجب الإيمان به، وعملوا الصالحات بجوارحهم. من كل قول (٦) وفعل واجب أو مستحب. ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ على طاعة الله وعن معصيته، وعلى أقدار الله المؤلمة بأن يحث بعضهم بعضًا على الانقياد لذلك، والإتيان به كاملا منشرحًا به الصدر، مطمئنة به النفس.
﴿وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ للخلق، من إعطاء محتاجهم، وتعليم جاهلهم، والقيام بما يحتاجون إليه من جميع الوجوه، ومساعدتهم على المصالح الدينية والدنيوية، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، أولئك الذين قاموا بهذه الأوصاف، الذين وفقهم الله لاقتحام هذه العقبة ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ لأنهم أدوا ما أمر الله به من حقوقه وحقوق عباده، وتركوا ما نهوا عنه، وهذا عنوان السعادة وعلامتها.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا﴾ بأن نبذوا هذه الأمور وراء ظهورهم، فلم يصدقوا بالله، [ولا آمنوا به]، ولا عملوا صالحًا، ولا رحموا عباد الله، ﴿والذين كفروا بآياتنا همْ أَصْحَابُ الْمَشْئَمَة عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ﴾ أي: مغلقة، في عمد ممددة، -[٩٢٦]- قد مدت من ورائها، لئلا تنفتح أبوابها، حتى يكونوا في ضيق وهم وشدة [والحمد لله].
(٢) في ب: أيظن.
(٣) في ب: على معاصي الله.
(٤) في ب: لهواه.
(٥) سبق قلم الشيخ فزاد في الآية "وعملوا الصالحات" فحذفت الزيادة في الآية وأبقيت التفسير.
(٦) في ب: فدخل في هذا كل قول.