قوله : ١٩٦ - ﴿ وأتموا الحج ﴾ اختلف العلماء في المعنى المراد بإتمام الحج والعمرة لله فقيل : أداؤهما والإتيان بهما من دون أن يشوبهما شيء مما هو محظور ولا يخل بشرط ولا فرض لقوله تعالى :﴿ فأتمهن ﴾ وقوله :﴿ ثم أتموا الصيام إلى الليل ﴾ وقال سفيان الثوري : إثمامهما أن تخرج لهما لا لغيرهما وقيل : إتمامهما أن تفرد كل واحد منهما من غير تمتع ولا قران وبه قال ابن حبيب وقال مقاتل : إتمامهما أن لا يستحلوا فيهما ما لا ينبغي لهم وقيل : إتمامهما أن يحرم لهما من دويرة أهله وقيل : أن ينفق في سفرهما الحلال الطيب وسيأتي بيان سبب نزول الآية وما هو مروي عن السلف في معنى إتمامهما وقد استدل بهذه الآية على وجوب العمرة لأن الأمر بإتمامهما أمر بها وبذلك قال علي وابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير ومسروق وعبد الله بن شداد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن الجهم من المالكية وقال مالك والنخعي وأصحاب الرأي كما حكاه ابن المنذر عنهم : أنهم سنة وحكي عن أبي حنيفة أنه يقول بالوجوب ومن القائلين بأنها سنة ابن مسعود وجابر بن عبد الله ومن جملة ما استدل به الأولون ما ثبت عنه صلى الله عليه و سلم في الصحيح أنه قال لأصحابه :[ من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة ] وثبت عنه أيضا في الصحيح أنه قال :[ دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ] وأخرج الدارقطني والحاكم من حديث زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت ] واستدل الآخرون بما أخرجه الشافعي في الآية وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن أبي صالح الحنفي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ الحج جهاد والعمرة تطوع ] وأخرج ابن ماجه عن طلحة بن عبيد الله مرفوعا مثله وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه عن جابر [ أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن العمرة أواجبة هي ؟ قال : لا وأن تعتمروا خير لكم ] وأجابوا عن الآية وعن الأحاديث المصرحة بأنها فريضة بحمل ذلك على أنه قد وقع الدخول فيها وهي بعد الشروع فيها واجبة بلا خلاف وهذا وإن كان فيه بعد لكنه يجب المصير إليه جمعا بين الأدلة ولا سيما بعد تصريحه صلى الله عليه و سلم بما تقدم في حديث جابر من عدم الوجوب وعلى هذا يحمل ما ورد مما فيه دلالة على وجوبها كما أخرجه الشافعي في الأم أن في الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم :[ إن العمرة هي الحج الأصغر ] وكحديث ابن عمر عند البيهقي في الشعب قال :[ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أوصني فقال تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم شهر رمضان وتحج وتعتمر وتسمع وتطيع وعليك بالعلانية وإياك والسر ] وهكذا ينبغي حمل ما ورد من الأحاديث التي قرن فيها بين الحج والعمرة في أنهما من أفضل الأعمال وأنهما كفارة لما بينهما وأنهما يهدمان ما كان قبلهما ونحو ذلك قوله :﴿ فإن أحصرتم ﴾ الحصر : الحبس قال أبو عبيدة والكسائي والخليل : إنه يقال أحصر بالمرض وحصر بالعدو وفي المجمل لابن فارس العكس يقال : أحصر بالعدو وحصر بالمرض ورجح الأول ابن العربي وقال : هو رأي أكثر أهل اللغة وقال الزجاج : إنه كذلك عند جميع أهل اللغة وقال الفراء : هما بمعنى واحد في المرض والعدو ووافقه على ذلك أبو عمرو الشيباني فقال : حصرني الشيء وأحصرني : أي حبسني وبسبب هذا الاختلاف بين أهل اللغة اختلف أئمة الفقه في معنى الآية فقالت الحنفية : المحصر من يصير ممنوعا من مكة بعد الإحرام بمرض أو عدو أو غيره وقالت الشافعية وأهل المدينة المراد بالآية حصر العدو وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن المحصر بعدو يحل حيث أحصر وينحر هديه إن كان ثم هدي ويحلق رأسه كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم هو وأصحابه في الحديبية وقوله ﴿ فما استيسر من الهدي ﴾ ما في موضع رفع على الابتداء أو الخبر : أي فالواجب أو فعليكم ويحتمل أن يكون في موضع نصب أي فانحروا أو فاهدوا ما استيسر : أي ما تيسر يقال : يسر الأمر واستيسر كما يقال : صعب واستصعب الهدي والهدي لغتان وهما جمع هدية وهي ما يهدى إلى البيت من بدنة أو غيرها قال الفراء : أهل الحجاز وبنو أسد يخففون الهدي وتميم وسفلى قيس يثقلون قال الشاعر :
( حلفت برب كعبة والمصلى | وأعناق الهدي مقلدات ) |
قال : وواحد الهدي هدية ويقال : في جمع الهدي أهد واختلف أهل العلم في المراد بقوله :
﴿ ما استيسر ﴾ فذهب الجمهور إلى أنه شاة وقال ابن عمر وعائشة وابن الزبير : جمل أو بقرة وقال الحسن : أعلا الهدي بدنة وأوسطه بقرة وأدناه شاة وقوله :
﴿ ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ﴾ هو خطاب لجميع الأمة من غير فرق بين محصر وغير محصر وإليه ذهب جمع من أهل العلم - وذهبت طائفة إلى أنه خطاب للمحصرين خاصة : أي لا تحلوا من الإحرام حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم قد بلغ محله وهو الموضع الذي يحل فيه ذبحه واختلفوا في تعيينه فقال مالك والشافعي : هو موضع الحصر اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم حيث أحصر في عام الحديبية وقال أبو حنيفة : هو الحرام لقوله تعالى :
﴿ ثم محلها إلى البيت العتيق ﴾ وأجيب عن ذلك بان المخاطب به هو الآمن الذي يمكنه الوصول إلى البيت وأجاب الحنفية عن نحره صلى الله عليه و سلم في الحديبية بأن طرف الحديبية الذي إلى أسفل مكة هو من الحرم ورد بأن المكان الذي وقع فيه النحر ليس هو من الحرم قوله :
﴿ فمن كان منكم مريضا ﴾ الآية المراد بالمرض هنا ما يصدق عليه مسمى المرض لغة والمراد بالأذى من الرأس : ما فيه من قمل أو جراح ونحو ذلك ومعنى الآية : أن من كان مريضا أو به أذى من رأسه فحلق فعليه فدية وقد بينت السنة ما أطلق هنا من الصيام والصدقة والنسك فثبت في الصحيح [ أن رسول الله رأى كعب بن عجرة وهو محرم وقمله يتساقط على وجهه فقال : أيؤذيك هوام رأسك ؟ قال : نعم فأمره أن يحلق ويطعم ستة مساكين أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام ] وقد ذكر ابن عبد البر أنه لا خلاف بين العلماء أن النسك هنا هو شاة وحكي عن الجمهور أن الصوم المذكور في الآية ثلاثة أيام والإطعام عشرة مساكين والحديث الصحيح المتقدم يرد عليهم ويبطل قولهم وقد ذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وداود إلى أن الإطعام في ذلك مدان بمد النبي صلى الله عليه و سلم أي لكل مسكين وقال الثوري نصف صاع من بر أو صاع من غيره وروي ذلك عن أبي حنيفة قال ابن المنذر : وهذا غلط لأن في بعض أخبار كعب أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له : تصدق بثلاثة أصوع من تمر على ستة مساكين واختلفت الرواية عن أحمد بن حنبل فروي عنه مثل قول مالك والشافعي وروي عنه أنه إن أطعم برا فمد لكل مسكين وإن أطعم تمرا فنصف صاع واختلفوا في مكان هذه الفدية فقال عطاء : ما كان من دم فبمكة وما كان من طعام أو صيام فحيث شاء وبه قال أصحاب الرأي وقال طاوس والشافعي : الإطعام والدم لا يكونان إلا بمكة والصوم حيث شاء وقال مالك ومجاهد : حيث شاء في الجميع وهو الحق لعدم الدليل على تعيين المكان قوله :
﴿ فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ﴾ أي برأتم من المرض - وقيل : من خوفكم من العدو على الخلاف السابق ولكن الأمن من العدو أظهر من استعمال أمنتم في ذهاب المرض فيكون مقويا لقول من قال إن قوله :
﴿ فإن أحصرتم ﴾ المراد به الإحصار من العدو كما أن قوله :
﴿ فمن كان منكم مريضا ﴾ يقوي قول من قال بذلك لإفراد عذر المرض بالذكر وقد وقع الخلاف هل المخاطب بهذا هم المحصرون خاصة أم جميع الأمة على حسب ما سلف والمراد بالتمتع المذكور في الآية أن يحرم الرجل بعمرة ثم يقيم حلالا بمكة إلى أن يحرم بالحج فقد استباح بذلك ما لا يحل للمحرم استباحته وهو معنى تمتع واستمتع ولا خلاف بين أهل العلم في جواز التمتع بل هو عندي أفضل أنواع الحج كما حررته في شرحي على المنتقى وقد تقدم الخلاف في معنى قوله :
﴿ فما استيسر من الهدي ﴾ قوله :
﴿ فمن لم يجد ﴾ الآية أي فمن لم يجد الهدي إما لعدم المال أو لعدم الحيوان صام ثلاثة أيام في الحج : أي في أيام الحج وهي من عند شروعه في الإحرام إلى يوم النحر وقيل : يصوم قبل يوم التروية يوما ويوم التروية ويوم عرفة وقيل : ما بين أن يحرم بالحج إلى يوم عرفة وقيل : يصومهن من أول عشر ذي الحجة وقيل : ما دام بمكة وقيل : إنه يجوز أن يصوم الثلاث قبل أن يحرم وقد جوز بعض أهل العلم صيام أيام التشريق لمن لم يجد الهدي ومنعه آخرون قوله :
﴿ وسبعة إذا رجعتم ﴾ قرأه الجمهور بخفض سبعة وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة بالنصب على أنه معمول بفعل مقدر : أي وصوموا سبعة وقيل : على أنه معطوف على ثلاثة لأنها وإن كانت مجرورة لفظا فهي في محل نصب كأنه قيل : فصيام ثلاثة والمراد بالرجوع هنا الرجوع إلى الأوطان قال أحمد وإسحاق : يجزيه الصوم في الطريق ولا يتضيق عليه الوجوب إلا إذا وصل وطنه وبه قال الشافعي وقتادة والربيع ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وغيرهم وقال مالك : إذا رجع من منى فلا بأس أن يصوم والأول أرجح وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أنه قال صلى الله عليه و سلم :[ فمن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ] فبين صلى الله عليه و سلم أن الرجوع المذكور في الآية هو الرجوع إلى الأهل وثبت أيضا في الصحيح من حديث ابن عباس بلفظ [ وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم ] وإنما قال سبحانه :
﴿ تلك عشرة كاملة ﴾ مع أن كل أحد يعلم أن الثلاثة والسبعة عشرة لدفع أن يتوهم متوهم التخيير بين الثلاث الأيام في الحج والسبعة إذا رجع قال الزجاج وقال المبرد : ذكر ذلك ليدل على انقضاء العدد لئلا يتوهم متوهم أنه قد منه شيء بعد ذكر السبعة وقيل : هو توكيد كما تقول كتبت بيدي وقد كانت العرب تأتي بمثل هذه الفذلكة فيما دون هذا العدد كقول الشاعر :
( ثلاث واثنتان فهن خمس | وسادسة تميل إلى سهامي ) |
وكذا قول الآخر
( ثلاث بالعداد وذاك حسبي | وست حين يدركني العشاء ) |
( فذلك تسعة في اليوم ري | وشرب المرء فوق الري داء ) |
وقوله :
﴿ كاملة ﴾ توكيد آخر بعد الفذلكة لزيادة التوصية بصيامها وأن لا ينقص من عددها وقوله :
﴿ ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ﴾ الإشارة بقوله :
﴿ ذلك ﴾ قيل : هي راجعة إلى التمتع فتدل على أنه لا متعة لحاضري المسجد الحرام كما يقول أبو حنيفة وأصحابه قالوا : ومن تمتع منهم كان عليه دم وهو دم جناية لا يأكل منه وقيل : إنها راجعة إلى الحكم وهو وجوب الهدي والصيام فلا يجب ذلك على من كان من حاضري المسجد الحرام كما يقوله الشافعي ومن وافقه والمراد بمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام : من لم يكن ساكنا في الحرم أو من لم يكن ساكنا في المواقيت فما دونها على الخلاف في ذلك بين الأئمة وقوله :
﴿ واتقوا الله ﴾ أي فيما فرضه عليكم في هذه الأحكام وقيل : هو أمر التقوى على العموم وتحذير من شدة عقاب الله سبحانه
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الدلائل وابن عبد البر في التمهيد عن يعلى بن أمية قال :[ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم وهو بالجعرانة وعليه جبة وعليه أثر خلوق فقال : كيف تأمرني يا رسول الله أن أصنع في عمرتي ؟ فأنزل الله :
﴿ وأتموا الحج والعمرة لله ﴾ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
﴿ وأتموا الحج والعمرة لله ﴾ فقال رسول الله صلى الله عليه و س