١٦٩ - ﴿ خالدين فيها أبدا ﴾ أي : يدخلهم جهنم خالدين فيها وهي حال مقدرة وقوله ﴿ أبدا ﴾ منصوب على الظرفية وهو لدفع احتمال أن الخلود هنا يراد به المكث الطويل ﴿ وكان ذلك ﴾ أي : تخليدهم في جهنم أو تكر المغفرة لهم والهداية مع الخلود في جهنم ﴿ على الله يسيرا ﴾ لأنه سبحانه لا يصعب عليه شيء ﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾
١٧٠ - ﴿ فآمنوا خيرا لكم ﴾ اختلف أئمة النحو في انتصاب خيرا على ماذا ؟ فقال سيبويه والخليل بفعل مقدر : أي واقصدوا أو أتوا خيرا لكم وقال الفراء : هو نعت لمصدر محذوف : أي فآمنوا إيمانا خيرا لكم وذهب أبو عبيدة والكسائي إلى أنه خبر لكان مقدرة : أي فآمنوا يكن الإيمان خيرا لكم وأقوى هذه الأقوال الثالث ثم الأول ثم الثاني على ضعف فيه ﴿ وإن تكفروا ﴾ أي : وإن تستمروا على كفركم ﴿ فإن لله ما في السموات والأرض ﴾ من مخلوقاته وأنتم من جملتهم ومن كان خاليا لكم ولها فهو قادر على مجازاتكم بقبيح أفعالكم ففي هذه الجملة وعيد لهم مع إيضاح وجه البرهان وإماطة الستر عن الدليل بما يوجب عليهم القبول والإذعان لأنهم يعترفون بأن الله خالقهم ﴿ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ﴾
قوله ١٧١ - ﴿ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ﴾ الغلو : هو التجاوز في الحد ومنه غلا السعر يغلو غلاء وغلا الرجل في الأمر غلوا وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها والمراد بالآية النهي لهم عن الإفراط تارة والتفريط أخرى فمن الإفراط غلو النصارى في عيسى حتى جعلوه ربا ومن التفريط غلو اليهود فيه عليه السلام حتى جعلوه لغير رشدة وما أحسن قول الشاعر :
( ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد | كلا طرفي قصد الأمور ذميم ) |
ووقفنا في الأناجيل الأربعة التي يطلق عليها عندهم اسم الإنجيل على اختلاف كثير في عيسى : فتارة يوصف بأنه ابن الإنسان وتارة يوصف بأنه ابن الله وتارة يوصف بأنه ابن الرب وهذا تناقض ظاهر وتلاعب بالدين والحق ما أخبرنا الله به في القرآن وما خالفه في التوراة والإنجيل أو الزبور فهو من تحريف المحرفين وتلاعب المتلاعبين ومن أعجب ما رأيناه أن الأناجيل الأربعة كل واحد منها منسوب إلى واحد من أصحاب عيسى عليه السلام
وحاصل ما فيها جميعا أن كل واحد من هؤلاء الأربعة ذكر سيرة عيسى من عند أن بعثه الله إلى أن رفعه إليه وذكر ما جرى له من المعجزات والمراجعات لليهود ونحوهم فاختلفت ألفاظهم واتفقت معانيها وقد يزيد بعضهم على بعض بحسب ما يقتضيه الحفظ والضبط وذكر ما قاله عيسى وما قيل له وليس فيها من كلام الله سبحانه شيء ولا أنزل على عيسى من عنده كتابا بل كان عيسى عليه السلام يحتج عليهم بما في التوراة ويذكر أنه لم يأت بما يخالفها وهكذا الزبور فإنه من أوله إلى آخره من كلام داود عليه السلام وكلام الله أصدق وكتابه أحق وقد أخبرنا أن الانجيل كتابه ينزله على عبده ورسوله عيسى ابن مريم وأن الزبور كتابه آتاه داود وأنزله عليه قوله ﴿ انتهوا خيرا لكم ﴾ أي : انتهوا عن التثليث وانتصاب خيرا هنا فيه الوجوه الثلاثة التي تقدمت في قوله ﴿ فآمنوا خيرا لكم ﴾ ﴿ إنما الله إله واحد ﴾ لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد ﴿ سبحانه أن يكون له ولد ﴾ أي : أسبحه تسبيحا عن أن يكون له ولد ﴿ له ما في السموات وما في الأرض ﴾ وما جعلتمون له شريكا أو ولدا هو من جملة ذلك والمملوك المخلوق لا يكون شريكا ولا ولدا ﴿ وكفى بالله وكيلا ﴾ بكل الخلق أمورهم إليه ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال :[ دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لهم : إني والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله قالوا : ما نعلم ذلك فأنزل الله ﴿ لكن الله يشهد ﴾ الآية ] وأخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن أبي موسى أن النجاشي قال لجعفر : ما يقول صاحبك في ابن مريم ؟ قال : يقول فيه قول الله هو روح الله وكلمته أخرجه من البتول العذراء لم يقربها بشر فتناول عودا من الأرض فرفعه فقال : يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه وأخرجه البيهقي في الدلائل عن ابن مسعود بأطول من هذا وأخرج البخاري عن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ]