قوله : ٢٣ - ﴿ قال رجلان ﴾ هما يوشع وكالب بن يوفنا أو ابن فانيا وكانا من الإثني عشر نقيبا كما مر بيان ذلك وقوله :﴿ من الذين يخافون ﴾ أي يخافون من الله عز و جل وقيل من الجبارين : أي هذان الرجلان من جملة القوم الذين يخافون من الجبارين وقيل من الذين يخافون ضعف بني إسرائيل وجبنهم وقيل إن الواو في ﴿ يخافون ﴾ لبني إسرائيل : أي من الذين يخافهم بنو إسرائيل وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير يخافون بضم الياء : أي يخافهم غيرهم قوله :﴿ أنعم الله عليهما ﴾ في محل رفع على أنه صفة ثانية لرجلان بالإيمان واليقين بحصول ما وعدوا به من النصر والظفر ﴿ ادخلوا عليهم الباب ﴾ أي باب بلد الجبارين ﴿ فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ﴾ قالا : هذه المقالة لبني إسرائيل والظاهر أنهما قد علما بذلك من خبر موسى أو قالاه ثقة بوعد الله أو كانا قد عرفا أن الجبارين قد ملئت قلوبهم خوفا ورعبا
٢٤ - ﴿ قالوا ﴾ أي بنو إسرائيل لموسى ﴿ إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها ﴾ وكان هذا القول منهم فشلا وجبنا أو عنادا وجرأة على الله وعلى رسوله ﴿ فاذهب أنت وربك فقاتلا ﴾ قالوا هذا جهلا بالله عز و جل وبصفاته وكفرا بما يجب له أو استهانة بالله ورسوله وقيل أرادوا بالذهاب الإرادة والقصد وقيل أرادوا بالرب هارون وكان أكبر من موسى وكان موسى يطيعه ﴿ إنا هاهنا قاعدون ﴾ أي لا نبرح هاهنا لا نتقدم معك ولا نتأخر عن هذا الموضع وقيل أرادوا بذلك عدم التقدم لا عدم التأخر
٢٥ - ﴿ قال ﴾ موسى ﴿ رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ﴾ يحتمل أن يعطف وأخي على نفسي وأن يعطف على الضمير في ﴿ إني ﴾ أي إني لا أملك إلا نفسي وإن أخي لا يملك إلا نفسه قال هذا تحسرا وتحزنا واستجلابا للنصر من الله عز و جل ﴿ فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ﴾ أي افصل بيننا : يعني نفسه وأخاه وبين القوم الفاسقين وميزنا عن جملتهم ولا تلحقنا بهم في العقوبة وقيل المعنى : فاقض بيننا وبينهم وقيل إنما أراد في الآخرة وقرأ عبيد بن عمير ﴿ فافرق ﴾ بكسر الراء
٢٦ - ﴿ قال فإنها ﴾ أي الأرض المقدسة ﴿ محرمة عليهم ﴾ أي على هؤلاء العصاة بسبب امتناعهم من قتال الجبارين ﴿ أربعين سنة ﴾ ظرف للتحريم : أي أنه محرم عليهم دخولها هذه المدة لا زيادة عليه فلا يخالف هذا التحريم ما تقدم من قوله :﴿ التي كتب الله لكم ﴾ فإنها مكتوبة لمن بقي منهم بعد هذه المدة وقيل إنه لم يدخلها أحد ممن قال :﴿ إنا لن ندخلها ﴾ فيكون توقيت التحريم بهذه المدة باعتبار ذراريهم وقيل إن ﴿ أربعين سنة ﴾ ظرف لقوله :﴿ يتيهون في الأرض ﴾ أي يتيهون هذا المقدار فيكون التحريم مطلقا والموقت : هو التيه وهو في اللغة الحيرة يقال منه : تاه يتيه تيها أو توها إذا تحير فالمعنى : يتحيرون في الأرض قيل إن هذه الأرض التي تاهوا فيها كانت صغيرة نحو ستة فراسخ كانوا يمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا وكانوا سيارة مستمرين على ذلك لا قرار لهم
واختلف أهل العلم هل كان معهم موسى وهارون أم لا ؟ فقيل لم يكونا معهم لأن التيه عقوبة وقيل كانا معهم لكن سهل الله عليهما ذلك كما جعل النار بردا وسلاما على إبراهيمز وقد قيل كيف يقع هذا لجماعة من العقلاء في مثل هذه الأرض اليسيرة في هذه المدة الطويلة ؟ قال أبو علي : يكون ذلك بأن يحول الله الأرض التي هم عليها إذا ناموا إلى المكان الذي ابتدأوا منه وقد يكون بغير ذلك من الأسباب المانعة من الخروج عنها على طريق المعجزة الخارقة للعادة
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله :﴿ وجعلكم ملوكا ﴾ قال : ملكهم الخدم وكانوا أول من ملك الخدم وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة والخادم والدار سمي ملكا وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عنه في الآية قال : الزوجة والخادم والبيت وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عنه أيضا في قوله :﴿ وجعلكم ملوكا ﴾ قال : المرأة والخدم ﴿ وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ﴾ قال : الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :[ كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا ] وأخرج ابن جرير والزبير بن بكار في الموقفيات عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ من كان له بيت وخادم فهو ملك ] وأخرج أبو داود في مراسيله عن زيد بن أسلم في الآية قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ زوجة ومسكن وخادم ] وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سأله رجل : ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ قال : ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم قال : ألك مسكن تسكنه ؟ قال : نعم قال : فأنت من الأغنياء قال : إن لي خادما قال : فأنت من الملوك وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله :﴿ وجعلكم ملوكا ﴾ قال : جعل لهم أزواجا وخدما وبيوتا ﴿ وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ﴾ قال : المن والسلوى والحجر والغمام وأخرج ابن جرير من طريق مجاهد عن ابن عباس في الآية قال : المن والسلوى والحجر والغمام وقد ثبت في الحديث الصحيح :[ من أصبح منكم معافى في جسده آمنا في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ] وأخرج ابن جرير عنه في قوله :﴿ ادخلوا الأرض المقدسة ﴾ قال : الطور وما حوله وأخرج عنه أيضا قال : هي أريحاء وأخرج ابن عساكر عن معاذ بن جبل قال : هي ما بين العريش إلى الفرات وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال : هي الشام وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله :﴿ التي كتب الله لكم ﴾ قال : التي أمركم الله بها وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قال : أمر القوم بها كما أمرنا بالصلاة والزكاة والحج والعمرة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أمر موسى أن يدخل مدينة الجبارين فسار بمن معه حتى نزل قريبا من المدينة وهي أريحاء فبعث إليهم اثني عشر عينا من كل سبط منهم عين ليأتوه بخبر القوم فدخلوا المدينة فرأوا أمرا عظيما من هيئتهم وجسمهم وعظمهم فدخلوا حائطا لبعضهم فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه فجعل يجتني الثمار فنظر إلى آثارهم فتتبعهم فكلما أصاب واحدا منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة حتى التقط الإثني عشر كلهم فجعلهم في كمه مع الفاكهة وذهب إلى ملكهم فنثرهم بين يديه فقال الملك : قد رأيتم شأننا وأمرنا اذهبوا فأخبروا صاحبكم قال : فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوا من أمرهم فقال : اكتموا عنا فجعل الرجل يخبر أباه وصديقه ويقول : اكتم عني فأشيع ذلك في عسكرهم ولم يكتم منهم إلا رجلان يوشع بن نون وكالب بن يوفنا وهما اللذان أنزل الله فيهما ﴿ قال رجلان من الذين يخافون ﴾ وقد روي نحو هذا مما يتضمن المبالغة في وصف هؤلاء وعظم أجسامهم ولا فائدة في بسط ذلك فغالبه من أكاذيب القصاص كما قدمنا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ فافرق ﴾ يقول : اقض وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه يقول : افصل بيننا وبينهم وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله :﴿ فإنها محرمة عليهم ﴾ قال : أبدا وفي قوله :﴿ يتيهون في الأرض ﴾ قال : أربعين سنة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : تاهوا أربعين سنة فهلك موسى وهارون في التيه وكل من جاوز الأربعين سنة فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم يوشع بن نون وهو الذي قام بالأمر بعد موسى وهو الذي افتتحها وهو الذي قيل له اليوم يوم جمعة فهموا بافتتاحها فدنت الشمس للغروب فخشي إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا فنادى الشمس إني مأمور وأنت مأمورة فوقفت حتى افتتحها فوجد فيها من الأموال ما لم يرد مثله قط فقربوه إلى النار فلم تأت فقال فيكم الغلول فدعا رؤوس الأسباط وهم إثنا عشر رجلا فبايعهم والتصقت يد رجل منهم بيده فقال : الغلول عندك فأخرجه فأخرج رأس بقرة من ذهب لها عينان من ياقوت وأسنان من لؤلؤ فوضعه مع القربان فأتت النار فأكلتها وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق ولا تدرن