قوله : ١٨٨ - ﴿ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ﴾ هذه الجملة متضمنة لتأكيد ما تقدم من عدم علمه بالساعة أيان تكون ومتى تقع لأنه إذا كان لا يقدر على جلب نفع له أو دفع ضر عنه إلا ما شاء الله سبحانه من النفع له والدفع عنه فبالأولى أن يقدر على علم ما استأثر الله بعلمه وفي هذا من إظهار العبودية والإقرار بالعجز عن الأمور التي ليست من شأن العبيد والاعتراف بالضعف عن انتحال ما ليس له صلى الله عليه و سلم ما فيه أعظم زاجر وأبلغ واعظ لمن يدعي لنفسه ما ليس من شأنها وينتحل علم الغيب بالنجامة أو الرمل أو الطرق بالحصا أو الزجر ثم أكد هذا وقرره بقوله :﴿ ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ﴾ أي لو كنت أعلم جنس الغيب لتعرضت لما فيه الخير فجلبته إلى نفسي وتوقيت ما فيه السوء حتى لا يمسني ولكني عبد لا أدري ما عند ربي ولا ما قضاه في وقدره لي فكيف أدري غير ذلك وأتكلف علمه وقيل المعنى : لو كنت أعلم ما يريد الله عز و جل مني من قبل أن يعرفنيه لفعلته وقيل : لو كنت أعلم متى يكون لي النصر في الحرب لقاتلت فلم أغلب وقيل : لو كنت أعلم الغيب لأجبت عن كل ما أسأل عنه والأولى حمل الآية على العموم فتندرج هذه الأمور وغيرها تحتها وقد قيل إن ﴿ وما مسني السوء ﴾ كلام مستأنف أي ليس بي ما تزعمون من الجنون والأولى أنه متصل بما قبله والمعنى : لو علمت الغيب ما مسنى السوء ولحذرت عنه كما قدمنا ذلك قوله :﴿ إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ﴾ أي ما أنا إلا مبلغ عن الله لأحكامه أنذر بها قوما وأبشر بها آخرين ولست أعلم بغيب الله سبحانه واللام في ﴿ لقوم ﴾ متعلق بكلا الصفتين : أي بشير لقوم ونذير لقوم وقيل هو متعلق ببشير والمتعلق بنذير محذوف : أي نذير لقوم يكفرون وبشير لقوم يؤمنون
قوله : ١٨٩ - ﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة ﴾ هذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر نعم الله على عباده وعدم مكافأتهم لها مما يجب من الشكر والاعتراف بالعبودية وأنه المنفرد بالإلهية قال جمهور المفسرين : المراد بالنفس الواحدة آدم وقوله :﴿ وجعل منها زوجها ﴾ معطوف على ﴿ خلقكم ﴾ أي هو الذي خلقكم من نفس آدم وجعل من هذه النفس زوجها وهي حواء خلقها من ضلع من أضلاعه وقيل المعنى ﴿ جعل منها ﴾ من جنسها كما في قوله :﴿ جعل لكم من أنفسكم أزواجا ﴾ والأول أولى ﴿ ليسكن إليها ﴾ علة للجعل : أي جعله منها لأجل يسكن إليها يأنس إليها ويطمئن بها فإن الجنس بجنسه أسكن وإليه آنس وكان هذا في الجنة كما وردت بذلك الأخبار : ثم ابتدأ سبحانه بحالة أخرى كانت بينهما في الدنيا بعد هبوطهما فقال :﴿ فلما تغشاها ﴾ والتغشي كناية عن الوقاع : أي فلما جامعها ﴿ حملت حملا خفيفا ﴾ علقت به بعد الجماع ووصفه بالخفة لأنه عند إلقاء النطفة أخف منه عند كونه علقة وعند كونه علقة أخف منه عند كونه مضغة وعند كونه مضغة أخف مما بعده وقيل : إنه خف عليها هذا الحمل من ابتدائه إلى انتهائه ولم تجد منه ثقلا كما تجده الحوامل من النساء لقوله :﴿ فمرت به ﴾ أي استمرت بذلك الحمل تقوم وتقعد وتمضي في حوائجها لا تجد به ثقلا والوجه الأول أولى لقوله :﴿ فلما أثقلت ﴾ فإن معناه : فلما صارت ذات ثقل لكبر الولد في بطنها وقرئ فمرت به بالتخفيف : أي فجزعت لذلك وقرئ فمارت به من المور وهو المجيء والذهاب وقيل المعنى : فاستمرت به وقد رويت قراءة التخفيف عن ابن عباس ويحيى بن يعمر ورويت قراءة فمارت عن عبد الله بن عمر وروي عن ابن عباس أنه قرأ فاستمرت به قوله :﴿ دعوا الله ربهما ﴾ جواب لما : أي دعا آدم وحواء ربهما ومالك أمرهما ﴿ لئن آتيتنا صالحا ﴾ أي ولدا صالحا واللام جواب قسم محذوف و ﴿ لنكونن من الشاكرين ﴾ جواب القسم ساد مسد جواب الشرط : أي من الشاكرين لك على هذه النعمة وفي هذا الدعاء دليل على أنهما قد علما أن ما حدث في بطن حواء من أثر ذلك الجماع هو من جنسهما وعلما بثبوت النسل المتأثر عن ذلك السبب


الصفحة التالية
Icon