ثم أخبر الله سبحانه بأن هذا الإنذار والتحذير والتوعد لم ينجع فيهم ولا لانت له قلوبهم بل هم مصرون على العناد مصممون على الكفر فقال مصدرا لهذا الإخبار بكلمة التنبيه الدالة على التعجب من حالهم وأنه أمر ينبغي أن يتنبه له العقلاء ويفهموه ٥ - ﴿ ألا إنهم يثنون صدورهم ﴾ يقال : ثنى صدره عن الشيء : إذا ازور عنه وانحرف منه فيكون في الكلام كناية عن الإعراض لأن من أعرض عن الشيء ثني عنه صدره وطوى عنه كشحه وقيل معناه : يعطفون صدورهم على ما فيها من الكفر والإعراض عن الحق فيكون في الكلام كناية عن الإخفاء لما يعتقدونه من الكفر كما كان دأب المنافقين والوجه الثاني أولى ويؤيده قوله :﴿ ليستخفوا منه ﴾ أي ليستخفوا من الله فلا يطلع عليه رسوله والمؤمنين أو ليستخفوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم كرر كلمة التنبيه مبينا للوقت الذي يثنون فيه صدورهم فقال :﴿ ألا حين يستغشون ثيابهم ﴾ أي يستخفون في وقت استغشاء الثياب وهو التغطي بها وقد كانوا يقولون إذا أغلقنا أبوابنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد فمن يعلم بنا ؟ وقيل : معنى حين يستغشون : حين يأوون إلى فراشهم ويتدثرون بثيابهم وقيل : إنه حقيقة وذلك أن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله صلى الله عليه و سلم ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه لئلا يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم وجملة ﴿ يعلم ما يسرون وما يعلنون ﴾ مستأنفة لبيان أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء لأن الله سبحانه يعلم ما يسرونه في أنفسهم أو في ذات بينهم وما يظهرونه فالظاهر والباطن عنده سواء والسر والجهر سيان وجملة ﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾ تعليل لما قبلها وتقرير له وذات الصدور هي الضمائر التي تشتمل عليها الصدور وقيل هي القلوب والمعنى : إنه عليم بجميع الضمائر أو عليم بالقلوب وأحوالها في الإسرار والإظهار فلا يخفى عليه شيء من ذلك
ثم أكد كونه عالما بكل المعلومات بما فيه غاية الامتنان ونهاية الإحسان فقال : ٦ - ﴿ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ﴾ أي الرزق الذي تحتاج إليه من الغذاء اللائق بالحيوان على اختلاف أنواعه تفضلا منه وإحسانا وإنما جيء به على طريق الوجوب كما تشعر به كلمة على اعتبارا بسبق الوعد به منه ومن زائدة للتأكيد ووجه اتصال هذا الكلام بما قبله أن الله سبحانه لما كان لا يغفل عن كل حيوان باعتبار ما قسمه له من الرزق فكيف يغفل عن أحواله وأقواله وأفعاله والدابة كل حيوان يدب ﴿ ويعلم مستقرها ﴾ أي محل استقرارها في الأرض أو محل قرارها في الأصلاب ﴿ ومستودعها ﴾ موضعها في الأرحام وما يجري مجراها كالبيضة ونحوها وقال الفراء : مستقرها حيث تأوي إليه ليلا ونهارا ومستودعها موضعها الذي تموت فيه وقد مر تمام الأقوال في سورة الأنعام ووجه تقدم المستقر على المستودع على قول الفراء ظاهر وأما على القول الأول فلعله وجه ذلك أن المستقر أنسب باعتبار ما هي عليه حال كونها دابة والمعنى : وما من دابة في الأرض إلا يرزقها الله حيث كانت من أماكنها بعد كونها دابة وقبل كونها دابة وذلك حيث تكون في الرحم ونحو ثم ختم الآية بقوله :﴿ كل في كتاب مبين ﴾ أي كل من ما تقدم ذكره من الدواب ومستقرها ومستودعها ورزقها في كتاب مبين وهو اللوح المحفوظ : أي مثبت فيه


الصفحة التالية
Icon