تطور الكتابة العربية
عرفت العرب الكتابة في جاهليتها، وعدَّتها شرطًا في كمال الرجل العربي، مثل معرفة السباحة والرماية وركوب الخيل، وتعود معرفتهم بالكتابة إلى اتصالهم بالأمم المتحضرة في بلاد اليمن وتخوم الشام، فأنشؤوا ممالكهم على أطراف تلك البلاد، وكانت مملكة النَّبَط إحدى هذه الممالك التي قامت على أطراف بلاد الشام في الناحية الشمالية الغربية من شبه الجزيرة العربية (١٦٩ق م - ١٠٦م) واتخذت البتراء ((سلع)) عاصمة لها، وكانت لهم صِلات بالآراميين؛ فتأثروا بهم، وتحدَّثوا لغتهم، واستنبطوا لأنفسهم خطًا خاصًا بهم عُرف بالخط النبطي، اشتق منه عرب الشمال خطهم الأول، فعرف الخط الأنباري، والخط الحيري، أو الخط المدوّر، والخط المثلث (١).
وفي الحجاز، حيث كان يحتكر أهل الذِّمة معرفة الكتابة عُرف خط التئم (٢)، أو الجَزْم (٣). وعندما ظهر الإسلام أصبحت الكتابة وسيلة هامة من وسائل نشر الدين، وضرورة من ضرورات الحكم.
وبُعث رسول الله ﷺ في أمة أمّيَة، لا تكاد تعرف القراءة والكتابة إلا نزرًا يسيرًا. قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤).
فشجع ﷺ أصحابه على تعلم الكتابة، وسلك في ذلك وسائل مختلفة، حتى إنه اشترط لفكاك الأسير من قريش في بدر تعليم عشرة من صبيان المدينة الكتابة (٥) ؛ فراجت الكتابةُ في عصره صلى الله عليه وسلم، حتى بلغ عدد كتّاب الوحي أكثر من أربعين كاتبًا، ومن هؤلاء: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب. فإذا غابا كتب أُبَيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، فإن لم يحضر أحدهما كتب غيرهما (٦).
هذا عدا من كان يكتب بين يديه ﷺ فيما يعرض له من أمور دينه وحوائجه، ومن هؤلاء: خالد بن سعيد بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان (٧).
أو يكتب للناس مدايناتهم وعقودهم ومعاملاتهم، ومن هؤلاء: المغيرة بن شعبة، والحصين بن نُمير، وكانا ينوبان عن خالد ومعاوية إذا لم يحضرا (٨).
أو يكتب أموال الصدقات، وقبائل الناس ومياههم، ومن هؤلاء: عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث، والعلاء بن عقبة (٩).
أو يكتب خَرْص ثمار الحجاز، ومن هؤلاء: حذيفة بن اليمان (١٠)، أو مغانم الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء: مُعَيْقيب بن أبي فاطمة، حليف بني أسد (١١)، أو يكتب إلى الملوك، ويجيب عن رسائلهم، ويترجم إلى الفارسية والرومية والقبطية والحبشية، ومن هؤلاء: زيد بن ثابت (١٢).
وتعد الحجاز أول بلاد العرب معرفة للكتابة، وكانت قريش في مكة، وثقيف في الطائف أكثر القبائل شهرة بها، ومن أبنائهما اختير كتَّاب صحف أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول، كما روى جابر بن سمرة: " لا يُمْلِيَن في مصاحفنا هذه إلا غلمان ثقيف (١٣) ". وعندما جمع عثمان بن عفان رضي الله عنه مصاحفه قال: اجعلوا المُمْلِي من هذيل، والكاتب من ثقيف (١٤).
(٢) معنى التئم: المولود مع آخر في بطن واحد، وهو يشبه خط التعليق المعروف في الوقت الحاضر. ((الكردي مرجع سابق، ٧٧)).
(٣) سمي بالجَزْم، لأنه جُزِم أي قُطع من المسند، أقدم خط في بلاد العرب كان مستعملاً في الأنبار والحيرة. ((المرجع نفسه، ٧٤)).
(٤) سورة الجمعة آية: ٢
(٥) الدالي: مرجع سابق، ٤٩، وعبد الفتاح القاضي: تاريخ المصحف الشريف، مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني بالقاهرة، ٧.
(٦) أبوجعفر محمد بن حبيب: كتاب المحبَّر، المكتب التجاري ببيروت، ٢٨٩، ٣٧٧، وأبوعبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري، ط٢، ١٤٠١هـ/١٩٨٠م، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، ١٢، وأحمد بن محمد بن عبدربه الأندلسي: العقد الفريد، ط٣، ١٤٠٧هـ/١٩٨٧م، دار الكتب العلمية ببيروت، ٤/٢٤٤.
(٧) الجهشياري: مصدر سابق، ١٢، وابن عبدربه: مصدر سابق، ٤/٢٤٤.
(٨) الجهشياري: مصدر سابق، ١٢، وابن عبدربه: مصدر سابق، ٤/٢٤٤.
(٩) الجهشياري: مصدر سابق، ١٢، وابن عبدربه: مصدر سابق، ٤/٢٤٤.
(١٠) المصدر نفسه، ٤/٢٤٤، والجهشياري: ١٢.
(١١) المصدر نفسه، ١٢، وابن عبدربه: مصدر سابق، ٤/٢٤٤.
(١٢) الجهشياري: مصدر سابق، ١٢، وابن عبدربه: مصدر سابق، ٤/٢٤٤.
(١٣) أبوالفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي: تاريخ عمر بن الخطاب، دار إحياء علوم الدين بدمشق، ١٤٩، والحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ط١، ١٤١٦هـ/١٩٩٦م، دار أبي حيان بالقاهرة، ١١/٢١٦.
(١٤) الدالي: مرجع سابق، ٢٢.