ثم وصفهم بقوله : ١٠٨ - ﴿ أولئك ﴾ أي الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحة ﴿ الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ﴾ فلم يفهموا المواعظ ولا سمعوها ولا أبصروا الآيات التي يستدل بها على الحق وقد سبق تحقيق الطبع في أول البقرة ثم أثبت لهم صفة نقص غير الصفة المتقدمة فقال :﴿ وأولئك هم الغافلون ﴾ عما يراد بهم وضمير الفصل يفيد أنهم متناهون في الغفلة إذ لا غفلة أعظم من غفلتهم هذه
١٠٩ - ﴿ لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ﴾ أي الكاملون في الخسران البالغون إلى غاية منه ليس فوقها غاية وقد تقدم تحقيق الكلام في معنى ﴿ لا جرم ﴾ في مواضع منها ما هو في هذه السورة
١١٠ - ﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا ﴾ من دار الكفر إلى دار الإسلام وخبر إن محذوف والتقدير لغفور رحيم وإنما حذف لدلالة خبر ﴿ إن ربك ﴾ المتأخرة عليه وقيل الخبر هو للذين هاجروا : أي إن ربك لهم بالولاية والنصرة لا عليهم وفيه بعد وقيل إن خبرها هو قوله ﴿ لغفور رحيم ﴾ وإن ربك الثانية تأكيد للأولى قال في الكشاف : ثم ها هنا للدلالة على تباعد حال هؤلاء يعني الذين نزلت الآية فيهم عن حال أولئك وهم عمار وأصحابه ويدل على ذلك ما روي أنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح وسيأتي بيان ذلك ﴿ من بعد ما فتنوا ﴾ أي فتنهم الكفار بتعذيبهم لهم ليرجعوا في الكفر وقرئ ﴿ فتنوا ﴾ على البناء للفاعل : أي الذين فتنوا المؤمنين وعذبوهم على الإسلام ﴿ ثم جاهدوا ﴾ في سبيل الله وصبروا على ما أصابهم من الكفار وعلى ما يلقونه من مشاق التكليف ﴿ لغفور رحيم ﴾ أي كثير الغفران والرحمة لهم ومعنى الآية على قراءة من قرأ ﴿ فتنوا ﴾ على البناء للفاعل واضح ظاهر : أي إن ربك لهؤلاء الكفار الذين فتنوا من أسلم وعذبوهم ثم جاهدوا وصبروا لغفور رحيم وأما على قراءة البناء للمفعول وهي قراءة الجمهور فالمعنى : أن هؤلاء المفتونين الذين تكلموا بكلمة الكفر مكرهين وصدورهم غير منشرحة للكفر إذا صلحت أعمالهم وجاهدوا في الله وصبروا على المكاره لغفور لهم رحيم بهم وأما إذا كان سبب الآية هذه هو عبد الله بن أبي سرح الذي ارتد عن الإسلام ثم رجع بعد ذلك إلى الإسلام فالمعنى : أن هذا المفتون في دينه بالردة إذا أسلم وجاهد وصبر فالله غفور له رحيم به والضمير في بعدها يرجع إلى الفتنة أو إلى المهاجرة والجهاد والصبر أو إلى الجميع
١١١ - ﴿ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ﴾ قال الزجاج : يوم تأتي منتصب بقوله رحيم أو بإضمار اذكر أو ذكرهم أو أنذرهم وقد استشكل إضافة ضمير النفس إلى النفس ولا بد من التغاير بين المضاف والمضاف إليه وأجيب بأن المراد بالنفس الأولى جملة بدن الإنسان وبالنفس الثانية الذات فكأن قيل يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه غيرها ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها فهو مجادل ومخاصم عن نفسه لا يتفرغ لغيرها يوم القيامة
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : لما أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يهاجر إلى المدينة قال لأصحابه : تفرقوا عني فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل ومن لم تكن به قوة فليذهب في أول الليل فإذا سمعتم بي قد استقرت بي الأرض فالحقوا بي فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت فأخذهم المشركون وأبو جهل فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى فجعلوا يضعون درعا من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه فإذا ألبسوها إياه قال : أحد أحد وأما خباب فجعلوا يجرونه في الشوك وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية وأما الجارية فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد ثم مدها فأدخل الحربة في قبلها حتى قتلها ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار فلحقوا برسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبروه بالذي كان من أمرهم واشتد على عمار الذي كان تكلم به فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم كيف كان قبلك حين قلت الذي قلت أكان منشرحا بالذي قلت أم لا ؟ قال لا فأنزل الله ﴿ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾ وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه قال : أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه و سلم وذكر آلهتهم بخير فتركوه فلما أتى النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما وراءك ؟ قال : شر ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال : كيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئنا بالإيمان قال : إن عادوا فعد فنزلت ﴿ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾ قال : ذاك عمار بن ياسر ﴿ ولكن من شرح بالكفر صدرا ﴾ عبد الله بن أبي سرح وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن عساكر عن أبي مالك في قوله :﴿ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾ قال : نزلت في عمار بن ياسر وفي الباب روايات مصرحة بأنها نزلت في عمار بن ياسر وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين قال : نزلت هذه الآية ﴿ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾ في عياش بن أبي ربيعة وأخرج ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : في سورة النحل ﴿ فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ﴾ ثم نسخ واستثنى من ذلك فقال :﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ﴾ الآية قال : وهو عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار فأمر به النبي صلى الله عليه و سلم أن يقتل يوم فتح مكة فاستجار له عثمان بن عفان فأجاره النبي صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن مثله وأخرج ابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية ﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ﴾ فيمن كان يفتي من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن مردويه عنه قال : كان قوم من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام فنزلت فيهم ﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا ﴾ الآية فكتبوا إليهم بذلك إن الله قد جعل لكم مخرجا فاخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم فنجا من نجا وقتل من قتل وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أن عيونا لمسيلمة أخذوا رجلين من المسلمين فأتوه بهما فقال لأحدهما : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم قال : أتشهد أني رسول الله فأهوى إلى أذنيه فقال : إني أصم فأمر به فقتل وقال للآخر : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم قال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : نعم فأرسله فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال له أما صاحبك فمضى على إيمانه وأما أنت فأخذت بالرخصة وهو مرسل


الصفحة التالية
Icon