٤ -﴿ ثم ارجع البصر كرتين ﴾ أي رجعتين مرة بعد مرة وانتصابه على المصدر والمراد بالتثنية التكثير كما في لبيك وسعديك : أي رجعة بعد رجعة وإن كثرت ووجه الأمر بتكرير النظر على هذه الصفة أنه قد لا يرى ما يظنه من العيب في النظرة الأولى ولا في الثانية ولهذا قال أولا ﴿ ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ﴾ ثم قال ثانيا ﴿ فارجع البصر ﴾ ثم قال ثالثا ﴿ ثم ارجع البصر كرتين ﴾ فيكون ذلك أبلغ في إقامة الحجة وأقطع للمعذرة ﴿ ينقلب إليك البصر خاسئا ﴾ أي يرجع إليك البصر ذليلا صاغرا على أن يرى شيئا من ذلك وقيل معنى خاسئا : مبعدا مطرودا عن أن يبصر ما التمسه من العيب يقال : خسأت الكلب : أي أبعدته وطردته قرأ الجمهور ﴿ ينقلب ﴾ بالجزم جوابا للأمر وقرأ الكسائي في رواية بالرفع على الاستئناف ﴿ وهو حسير ﴾ أي كليل منقطع قال الزجاج : أي وقد أعيا من قبل أن يرى في السماء خللا وهو فعيل بمعنى فاعل من الحسور وهو الإعياء يقال : حسر بصره يحسر حسورا : أي كل وانقطع ومنه قول الشاعر :
( نظرت إليها بالمحصب من منى
فعاد إلي الطرف وهو حسير )
٥ -﴿ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح ﴾ بين سبحانه بعد خلق السموات وخلوها من العيب والخلل أنه زينها بهذه الزينة فصارت في أحسن خلق وأكمل صورة وأبهج شكل والمجيء بالقسم لإبراز كمال العناية والمصابيح جمع مصباح وهو السراج وسميت الكواكب مصابيح لأنها تضيء كإضاءة السراج وبعض الكواكب وإن كان في غير سماء الدنيا من السموات التي فوقها فهي تتراءى كأنها كلها في سماء الدنيا لأن أجرام السموات لا تمنع من رؤية ما فوقها مما له إضاءة لكونها أجراما صقيلة شفافة ﴿ وجعلناها رجوما للشياطين ﴾ أي وجعلنا المصابيح رجوما يرجم بها الشياطين وهذه فائدة أخرى غير الفائدة الأولى وهي كونها زينة للسماء الدنيا والمعنى أنها يرجم بها الشياطين يسترقون السمع والرجوم جمع رجم بالفتح وهو في الأصل مصدر أطلق على المرجوم به كما في قولهم : الدرهم ضرب الأمير : أي مضروبه ويجوز أن يكون باقيا على مصدريته ويقدر مضاف محذوف : أي ذات رجم وجمع المصدر باعتبار أنواعه وقيل إن الضمير في قوله :﴿ وجعلناها ﴾ راجع إلى المصابيح على حذف مضاف : أي شهبها وهي نارها المقتسبة منها لا هي أنفسها لقوله :﴿ إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ﴾ ووجه هذا أن المصابيح التي زين الله بها السماء الدنيا لا تزول ولا يرجم بها كذا قال أبو علي الفارسي جوابا لمن سأله : كيف تكون المصابيح زينة وهي رجوم ؟ قال القشيري : وأمثل من قوله هذا أن نقول : هي زينة قبل أن يرجم بها الشياطين قال قتادة : خلق الله النجوم لثلاث : زينة للسماء ورجوما للشياطين وعلامت يهتدي بها في البر والبحر فمن تكلم فيها بغير ذلك فقد تكلم فيها لا يعلم وتعدى وظلم وقيل معنى الآية : وجعلناها ظنونا لشياطين الإنس وهم المنجمون ﴿ وأعتدنا لهم عذاب السعير ﴾ أي وأعتدنا للشياطين في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب عذاب السعير : أي عذاب النار والسعير : أشد الحريق يقال سعرت النار فهي مسعورة
الصفحة التالية