الأولي- قوله تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ﴾ لما ذكر استبعادهم للبعث ذكر توفيهم وأنه يعيدهم. ﴿يَتَوَفَّاكُمْ﴾ من توفى العدد والشيء إذا استوفاه وقبضه جميعا. يقال: توفاه الله أي استوفى روحه ثم قبضه. وتوفيت مالي من فلان أي استوفيته. ﴿مَلَكُ الْمَوْتِ﴾ واسمه عزرائيل ومعناه عبدالله؛ كما تقدم في "البقرة". وتصرفه كله بأمر الله تعالى وبخلقه واختراعه. وروي في الحديث أن "البهائم كلها يتوفى الله أرواحها دون ملك الموت" كأنه يعدم حياتها؛ ذكره ابن عطية.
قلت: وقد روي خلافه، وأن ملك الموت يتوفى أرواح جميع الخلائق حتى البرغوث والبعوضة. روى جعفر بن محمد عن أبيه قال: نظر رسول الله ﷺ إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ارفق بصاحبي فإنه مؤمن" فقال ملك الموت عليه السلام: "يا محمد، طب نفسا وقر عينا فإني بكل مؤمن رفيق. واعلم أن ما من أهل بيت مدر ولا شعر في بر ولا بحر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات حتى لأنا أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم. والله يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الآمر بقبضها". قال جعفر بن علّي: بلغني أنه يتصفحهم عند مواقيت الصلوات؛ ذكره الماوردي. وذكر الخطيب أبو بكر أحمد بن علّي بن ثابت البغدادي قال: حدثني أبو محمد الحسن بن محمد الخلال قال: حدثنا أبو محمد عبدالله بن عثمان الصفار قال حّدثنا أبو بكر حامد المصري قال حّدثنا يحيى ابن أيوب العلاف قال حدثنا سليمان بن مهير الكلابّي قال: حضرت مالك بن أنس رضي الله عنه فأتاه رجل فسأله: أبا عبدالله، البراغيث أملك الموت يقبض أرواحها؟ قال: فأطرق مالك طويلا ثم قال: ألها أنفس؟ قال نعم. قال: ملك الموت يقبض أرواحها؛ ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ قال ابن عطية بعد ذكره الحديث وكذلك الأمر في بني آدم، إلا أنه نوع شرف بتصرف ملك وملائكة معه في قبض أرواحهم. فخلق الله تعالى ملك
تفسير سورة الأحزاب
...
الرابعة- لما وكلت أمرها إلى الله وصح تفويضها إليه تولى الله إنكاحها، ولذلك قال: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا﴾. وروى الإمام جعفر بن محمد عن آبائه عن النبي ﷺ ﴿طَراً زَوَّجْنَاكَهَا﴾. ولما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن، ولا تجديد عقد ولا تقرير صداق، ولا شيء مما يكون شرطا في حقوقنا ومشروعا لنا وهذا من خصوصياته ﷺ التي لا يشاركه فيها أحد بإجماع من المسلمين. ولهذا كانت زينب تفاخر نساء النبي ﷺ وتقول: زوجكن آباؤكن وزوجني الله تعالى. أخرجه النسائي عن أنس بن مالك قال: كانت زينب تفخر على نساء النبي ﷺ تقول. إن الله عز وجل أنكحني من السماء. وفيها نزلت آية الحجاب، وسيأتي.
الخامسة- المنعَم عليه في هذه الآية هو زيد بن حارثة، كما بيناه، وقد تقدم خبره في أول السورة. وروي أن عمه لقيه يوما وكان قد. ورد مكة في شغل له، فقال: ما أسمك يا غلام؟ قال: زيد، قال: ابن من؟ قال: ابن حارثة. قال ابن من؟ قال: ابن شراحيل الكلبي. قال: فما اسم أمك؟ قال: سعدى، وكنت في أخوالي طي، فضمه إلى صدوه. وأرسل إلى أخيه وقومه فحضروا، وأرادوا منه أن يقيم معهم، فقالوا: لمن أنت؟ قال: لمحمد بن عبدالله، فأتوه وقالوا: هذا ابننا فرده علينا. فقال: "أعرض عليه فإن اختاركم فخذوا بيده" فبعث إلى زيد وقال: "هل تعرف هؤلاء"؟ قال نعما هذا أبي، وهذا أخي، وهذا عمي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "فأي صاحب كنت لك"؟ فبكى وقال: لم سألتني عن ذلك؟ قال: "أخيرك فإن أحببت أن تلحق بهم فألحق وإن أردت أن تقيم فأنا من قد عرفت" فقال: ما أختار عليك أحدا. فجذبه عمه وقال: زيد، اخترت العبودية على أبيك وعمك! فقال: أي والله العبودية عند محمد أحب إليّ من أن أكون عندكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا أني وارث وموروث". فلم يزل يقال: زيد بن محمد إلى أن نزل قوله تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ﴾ ونزل ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾


الصفحة التالية
Icon