سورة الفرقان
سبع وسبعون آية مكية
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٣١
٤٣٢
اعلم أن الله سبحانه وتعالى تكلم في هذه السورة في التوحيد والنبوة وأحوال القيامة، ثم ختمها بذكر صفات العباد المخلصين الموقنين، ولما كان إثبات الصانع وإثبات صفات جلاله يجب أن يكون مقدماً على الكل لا جرم افتتح الله هذه السورة بذلك فقال :﴿تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِه ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الزجاج : تبارك : تفاعل من البركة، والبركة كثرة الخير وزيادته وفيه معنيان : أحدهما : تزايد خيره وتكاثر، وهو المراد من قوله :﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ ﴾ (إبراهيم : ٣٤) والثاني : تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في ذاته وصفاته وأفعاله، وهو المراد من قوله :﴿لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ ﴾ (الشورى : ١١) وأما تعاليه عن كل شيء في ذاته، فيحتمل أن يكون المعنى جل بوجوب وجوده وقدمه عن جواز الفناء والتغير عليه، وأن يكون المعنى جل بفردانيته ووحدانيته عن مشابهة شيء من الممكنات، وأما تعاليه عن كل شيء في صفاته فيحتمل أن يكون المعنى جل أن يكون علمه ضرورياً أو كسبياً أو تصوراً أو تصديقاً وفي قدرته أن يحتاج إلى مادة ومدة ومثال وجلب غرض ومنال، وأما في أفعاله فجل أن يكون الوجود والبقاء وصلاح حال الوجود إلا من قبله، وقال آخرون : أصل الكلمة تدل على البقاء، وهو مأخوذ من بروك البعير، ومن بروك الطير على الماء، وسميت البركة بركة لثبوت الماء فيها، والمعنى أنه سبحانه وتعالى باق في ذاته أزلاً وأبداً ممتنع التغير وباق / في صفاته ممتنع التبدل، ولما كان سبحانه وتعالى هو الخالق لوجوه المنافع والمصالح والمبقى لها وجب وصفه سبحانه بأنه تبارك وتعالى.
المسألة الثانية : قال أهل اللغة : كلمة (الذي) موضوعة للإشارة إلى الشيء عند محاولة تعريفه بقضية معلومة، وعند هذا يتوجه الإشكال، وهو أن القوم ما كانوا عالمين بأنه سبحانه هو الذي نزل الفرقان فكيف حسن ههنا لفظ (الذي) ؟
وجوابه : أنه لما قامت الدلالة على كون القرآن معجزاً ظهر بحسب الدليل كونه من عند الله، فلقوة الدليل وظهوره أجراه سبحانه وتعالى مجرى المعلوم.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٣٢
المسألة الثالثة : لا نزاع أن الفرقان هو القرآن وصف بذلك من حيث إنه سبحانه فرق به بين الحق والباطل في نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم وبين الحلال والحرام، أو لأنه فرق في النزول كما قال :﴿وَقُرْءَانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَه عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ﴾ (الإسراء : ١٠٦) وهذا التأويل أقرب لأنه قال :﴿نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾ ولفظة (نزل) تدل على التفريق، وأما لفظة (أنزل) فتدل على الجمع، ولذلك قال في سورة آل عمران :﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَا ةِ وَالانجِيلَ﴾ (آل عمران : ٣) واعلم أنه سبحانه وتعالى لما قال أولاً ﴿تَبَارَكَ﴾ ومعناه كثرة الخير والبركة، ثم ذكر عقبه أمر القرآن دل ذلك على أن القرآن منشأ الخيرات وأعم البركات، لكن القرآن ليس إلا منبعاً للعلوم والمعارف والحكم، فدل هذا على أن العلم أشرف المخلوقات وأعظم الأشياء خيراً وبركة.