سورة الكوثر
ثلاث آيات مكية
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٢٣
٣٢٣
﴿إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾.
اعلم أن هذه السورة على اختصارها فيها لطائف : أحداها : أن هذه السورة كالمقابلة للسورة المتقدمة، وذلك لأن في السورة المتقدمة وصف الله تعالى المنافق بأمور أربعة : أولها : البخل وهو المراد من قوله :﴿يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ الثاني : ترك الصلاة وهو المراد من قوله :﴿الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ والثالث : المراءاة في الصلاة هو المراد من قوله :﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ﴾ والرابع : المنع من الزكاة وهو المراد من قوله :﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ فذكر في هذه السورة في مقابلة تلك الصفات الأربع صفات أربعة، فذكر في مقابلة البخل قوله :﴿إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ أي إنا أعطيناك الكثير، فأعط أنت الكثير ولا تبخل، وذكر في مقابلة :﴿الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ قوله :﴿فَصَلِّ﴾ أي دم على الصلاة، وذكر في مقابلة :﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ﴾ قوله :﴿لِرَبِّكَ﴾ أي ائت بالصلاة لرضا ربك، لا لمراءاة الناس، وذكر في مقابلة :﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ قوله :﴿وَانْحَرْ﴾ وأراد به التصدق بلحم الأضاحي، فاعتبر هذه المناسبة العجيبة، ثم ختم السورة بقوله :﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ﴾ أي المنافق الذي يأتي بتلك الأفعال القبيحة المذكورة في تلك السورة سيموت ولا يبقى من دناه أثر ولا خبر، وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل، وفي الآخرة الثواب الجزيل.
والوجه الثاني : في لطائف هذه السورة أن السالكين إلى الله تعالى لهم ثلاث درجات : أن يكونوا مستغرقين بقلوبهم وأرواحهم في نور جلال الله وثانيها : أن يكونوا مشتغلين بالطاعات والعبادات البدنية وثالثها : أن يكونوا في مقام منع النفس عن الانصباب إلى اللذات المحسوسة والشهوات العاجلة، فقوله :﴿إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ إشارة إلى المقام الأول / وهو كون روحه القدسية متميزة عن سائر الأرواح البشرية بالكم والكيف. أمابالكم فلأنها أكثر مقدمات، وأما بالكيف فلأنها أسرع انتقالاً من تلك المقدمات إلى النتائج من سائر الأرواح، وأما قوله :﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾ فهو إشارة إلى المرتبة الثانية، وقوله :﴿وَانْحَرْ﴾ إشارة إلى المرتبة الثالثة، فإن منع النفس عن اللذات العاجلة جار مجرى النحر والذبح، ثم قال :﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ﴾ ومعناه أن النفس التي تدعوك إلى طلب هذه المحسوسات والشهوات العاجلة، أنها دائرة فانية، وإنما الباقيات الصالحات خير عند ربك، وهي السعادات الروحانية والمعارف الربانية التي هي باقية أبدية. ولنشرع الآن في التفسير قوله تعالى :﴿إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ اعلم أن فيه فوائد :
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٢٣
الفائدة الأولى : أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها من السور، وكالأصل لما بعدها من السور. أما أنها كالتتمة لما قبلها من السور، فلأن الله تعالى جعل سورة :﴿وَالضُّحَى ﴾ في مدح محمد عليه الصلاة والسلام وتفصيل أحواله، فذكر في أول السورة ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته أولها : قوم :﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾، وثانيها : قوله :﴿وَلَلاخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاولَى ﴾ وثالثها :﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ ثم ختم هذه السورة بذكر ثلاثة أحوال من أحواله عليه السلام فيما يتعلق بالدنيا وهي قوله :﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَاَاوَى * وَوَجَدَكَ ضَآلا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَآا ِلا فَأَغْنَى ﴾.
ثم ذكر في سورة :﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ أنه شرفه بثلاثة أشياء أولها :﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ وثانيها :﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾، وثالثها :﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾.
ثم إنه تعالى شرفه في سورة : بثلاثة أنواع من التشريف أولها : أنه أقسم ببلده وهو قوله :﴿سِينِينَ * وَهَاذَا الْبَلَدِ الامِينِ﴾، وثانيها : أنه أخبر عن خلاص أمته عن النار وهو قوله :﴿إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾، وثالثها : وصولهم إلى الثواب وهو قوله :﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾.
ثم شرفه في سورة اقرأ بثلاثة أنواع من التشريفات أولها :﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ أي اقرأ القرآن على الحق مستعيناً باسم ربك وثانيها : أنه قهر خصمه بقوله :﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾، وثالثها : أنه خصه بالقربة التامة وهو :﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ﴾.
وشرفه في سورة القدر بليلة القدر التي لها ثلاثة أنواع من الفضيلة أولها : كونها :﴿خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، وثانيها : نزول :﴿الْمَلَا ا ِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾ وثالثها : كونها :﴿سَلَامٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٢٣


الصفحة التالية
Icon