سورة النصر
وهي ثلاث آيات مدنية
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٤٨
٣٤٩
﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾ في الآية لطائف :
إحداها : أنه تعالى لما وعد محمداً بالتربية العظيمة بقوله :﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ وقوله :﴿إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ لا جرم كان يزداد كل يوم أمره، كأنه تعالى قال : يا محمد لم يضيق قلبك، ألست حين لم تكن مبعوثاً لم أضيعك بل نصرتك بالطير الأبابيل، وفي أول الرسالة زدت فجعلت الطير ملائكة ألن يكفيكم :﴿أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ ءَالَافٍ﴾ ثم الآن أزيد فأقول إني أكون ناصراً لك بذاتي :﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾ فقال : إلهي إنما تتم النعمة إذا فتحت لي دار مولدي ومسكني فقال :﴿وَالْفَتْحُ﴾ فقال : إلهي لكن القوم إذا خرجوا، فأي لذة في ذلك فقال :﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾ ثم كأنه قال : هل تعلم يا محمد بأي سبب وجدت هذه التشريفات الثلاثة إنما وجدتها لأنك قلت في السورة المتقدمة :﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ وهذا يشتمل على أمور ثلاثة أولها : نصرتني بلسانك فكان جزاؤه :﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾ وثانيها : فتحت مكة قلبك بعسكر التوحيد فأعطيناك فتح مكة وهو المراد من قوله، والفتح والثالث : أدخلت رعية جوارحك وأعضائك في طاعتي وعبوديتي فأنا أيضاً أدخلت عبادي في طاعتك، وهو المراد من قوله :﴿يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾ ثم إنك بعد أن وجدت هذه الخلع الثلاثة فابعث إلى حضرتي بثلاث أنواع من العبودية تهادوا تحابوا، إن نصرتك فسبح، وإن فتحت مكة فاحمد وإن أسلموا، فاستغفر، وإنما وضع في مقابلة :﴿نَصْرُ اللَّهِ﴾ تسبيحه، لأن التسبيح هو تنزيع الله عن مشابهة المحدثات، يعني تشاهد أنه نصرك، فإياك أن تظن أنه إنما نصرك لأنك تستحق منه ذلك النحر، بل اعتقد كونه منزهاً عن أن يستحق عليه أحد من الخلق شيئاً، ثم جعل في مقابل فتح مكة الحمد لأن النعمة لا يمكن أن تقابل إلا بالحمد، ثم جعل في مقابلة دخول الناس في الدين الاستغفار وهو المراد من قوله :
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٤٩
﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ أي كثرة الأتباع مما يشغل / القلب بلذة الجاه والقبول، فاستغفر لهذا القدر من ذنبك، واستغفر لذنبهم فإنهم كلما كانوا أكثر كانت ذنوبهم أكثر فكان احتياجهم إلى استغفارك أكثر الوجه الثاني : أنه عليه السلام لما تبرأ عن الكفر وواجههم بالسوء في قوله :﴿فَ أولئك هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ كأنه خاف بعض القوم فقلل من تلك الخشونة فقال :﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ﴾ فقيل : يا محمد لا تخف فإني لا أذهب بك إلى النصر بل أجيء بالنصر إليك :﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾ نظيره :"زويت الأرض" يعني لا تذهب إلى الأرض بل تجيء الأرض إليك، فإن سئمت المقام وأردت الرحلة، فمثلك لا يرتحل إلا إلى قاب قوسين :﴿سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه ﴾ بل أزيد على هذا فأفضل فقراء أمتك على أغنيائهم ثم آمر الأغنياء بالضحايا ليتخذوها مطايا فإذا بقي الفقير من غير مطية أسوق الجنة إليه :﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ الوجه الثالث : كأنه سبحانه قال : يا محمد إن الدنيا لا يصفو كدرها ولا تدوم محنها ولا نعيمها فرحت بالكوثر فتحمل مشقة سفاهة السفهاء حيث قالوا : اعبد آلهتنا حتى نعبد إلهك فلما تبرأ عنهم وضاق قلبه من جهتهم قال : أبشر فقد جاء نصر الله فلما استبشر قال : الرحيل الرحيل أما علمت أنه لا بد بعد الكمال من الزوال، فاستغفره أيها الإنسان لا تحزن من جوع الربيع فعقيبه غنى الخريف ولا تفرح بغنى الخريف فعقيبه وحشة الشتاء/ فكذا من تم إقباله لا يبقى له إلا الغير ومنه إذا تم أمر دنا نقصه
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٤٩