سورة الفرقان
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٧٧
٤٧٨
هذه السورة مكية في قول الجمهور. وقال ابن عباس وقتادة : إلاّ ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي ﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهًا ءَاخَرَ﴾ ـ إلى قوله ـ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ وقال الضحاك مدنية إلا من أولها إلى قوله ﴿وَلا نُشُورًا﴾ فهو مكي. ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه لما ذكر وجوب مبايعة المؤمنين للرسول وأنهم إذا كانوا معه في أمر مهم توقف انفصال واحد منهم على إذنه وحذر من يخالف أمره وذكر أن له ملك السموات والأرض وأنه تعالى عالم بما هم عليه ومجازيهم على ذلك، فكان ذلك غاية في التحذير والإنذار ناسب أن يفتتح هذه السورة بأنه تعالى منزه في صفاته عن النقائص كثير الخير، ومن خيره أنه ﴿نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾ على رسوله منذراً لهم فكان في ذلك اطماع في خيره وتحذيره من عقابه. و﴿تَبَارَكَ﴾ تفاعل مطاوع بارك وهو فعل لا يتصرف ولم يستعمل في غيره تعالى فلا يجيء منه مضارع ولا اسم فاعل ولا مصدر. وقال الطرماح :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٧٨
تباركت لا معط لشيء منعتهوليس لما أعطيت يا رب مانع
قال ابن عباس : لم يزل ولا يزول. وقال الخليل : تمجد. وقال الضحاك : تعظم. وحكى الأصمعي تبارك عليكم من قول عربي صعد رابية فقال لأصحابه ذلك، أي تعاليت وارتفعت. ففي هذه الأقوال تكون صفة ذات. وقال ابن عباس أيضاً والحسن والنخعي : هو من البركة وهي التزايد في الخير من قبله، فالمعنى زاد خيره وعطاؤه وكثر، وعلى هذا يكون صفة فعل وجاء الفعل مسنداً إلى ﴿الَّذِى ﴾ وهم وإن كانوا لا يقرون بأنه تعالى هو الذي نزل الفرقان فقد قام الدليل على إعجازه فصارت الصلة معلومة بحسب الدليل، وإن كانوا منكرين لذلك. وتقدّم في آل عمران لمَ سمي القرآن فرقاناً.
وقرأ الجمهور ﴿عَلَى عَبْدِهِ﴾ وهو الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم. وقرأ ابن الزبير على عباده أي الرسول وأمته كما قال ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ﴾ ﴿وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا﴾ ويبعد أن يراد بالقرآن الكتب المنزلة، وبعبده من نزلت عليهم فيكون اسم جنس كقوله ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ﴾ والضمير في ﴿لِيَكُونَ﴾. قال ابن زيد : عائد على ﴿عَبْدِهِ﴾ ويترجح بأنه العمدة المسند إليه الفعل وهو من وصفه تعالى كقوله ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾. والظاهر أن ﴿نَذِيرًا﴾ بمعن منذر. وجوز أن يكون مصدراً بمعنى لإنذر كالنكير بمعنى الإنكار، ومنه ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ﴾. و﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ عام للإنس والجن، ممن عاصره أو جاء بعده وهذا معلوم من الحديث المتواتر وظواهر الآيات. وقرأ ابن الزبير ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ للجن والإنس وهو تفسير ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾.
ولما سبق في أواخر السورة لا إن لله ما في السموات والأرض فكان إخباراً بأن ما فيهما ملك له، أخبر هنا أنه له ملكهما أي قهرهما وقهر ما فيهما، فاجتمع له الملك والملك لهما. ولما فيهما، والذي مقطوع للمدح رفعاً أو نصباً أو نعت أو بد من ﴿الَّذِى نَزَّلَ﴾ وما بعد ﴿نَزَّلَ﴾ من تمام الصلة ومتعلق به فلا يعد فاصلاً بين النعت أو البدل ومتبوعه.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٧٨
﴿وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا﴾ الظاهر نفي الاتخاذ أي لم ينزل أحداً منزلة الولد. وقيل : المعنى لم يكن له ولد بمعنى قوله لم يلد لأن التوالد مستحيل عليه. وفي ذلك رد على مشركي قريش وعلى النصارى واليهود الناسبين لله الولد. ﴿وَلَمْ يَكُن لَّه شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ﴾ تأكيد لقوله ﴿لَه مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ﴾ ورد على من جعل لله شريكاً.
﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ﴾ عام في خلق الذوات وأفعالها. قيل : وفي
٤٨٠
الكلام حذف تقديره ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ﴾ مما يصح خلقه لتخرج عنه ذاته وصفاته القديمة انتهى. ولا يحتاج إلى هذا المحذوف لأن من قال : أكرمت كل رجل لا يدخل هو في العموم فكذلك لم يدخل في عموم ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ﴾ ذاته تعالى ولا صفاته القديمة. ﴿فَقَدَّرَه تَقْدِيرًا﴾ إن كان الخلق بمعنى التقدير، فكيف جاء ﴿فَقَدَّرَهُ﴾ إذ يصير المعنى وقدر كل شيء يقدره ﴿تَقْدِيرًا﴾. فقال الزمخشري : المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثاً مراعى فيه التقدير والتسوية فقدره وهيأه لما يصلح له، أو سمي إحداث الله خلقاً لأنه لا يحدث شيئاً لحكمته إلاّ على وجه التقدير من غير تفاوت. فإذا قيل : خلق الله كذا فهو بمنزلة إحداث الله وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق، فكأنه قيل : وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده متفاوتاً. وقيل : فجعل له غاية ومنتهى، ومعناه ﴿فَقَدَّرَهُ﴾ للبقاء إلى أمد معلوم. وقال ابن عطية : تقدير الأشياء هو حدها بالأمكنة والأزمان والمقادير والمصلحة والاتقان انتهى.
﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِا ءَالِهَةً﴾ الضمير في ﴿وَاتَّخَذُوا ﴾ عائد على ما يفهم من سياق الكلام لأن في قوله ﴿وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّه شَرِيكٌ﴾ دلالة على ذلك لم ينف إلاّ وقد قيل به. وقال الكرماني : الواو ضمير للكفار وهم مندرجون في قوله ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾. وقيل : لفظ ﴿نَذِيرًا﴾ ينبىء عنهم لأنهم المنذرون ويندرج في ﴿وَاتَّخَذُوا ﴾ كل من ادعى إلهاً غير الله، ولا يختص ذلك بعباد الأوثان وعباد الكواكب. وقال القاضي : يبعد أن يدخل فيه النصارى لأنهم لم يتخذوا من دون الله آلهة على الجمع. والأقرب أن المراد به عبَدة الأصنام، ويجوز أن يدخل فيه من عبد الملائكة لأن لعبادها كثرة انتهى. ولا يلزم ما قال لأن ﴿وَاتَّخَذُوا ﴾ جمع و﴿ءَالِهَةً﴾ جمع، وإذا قوبل الجمع بالجمع تقابل الفرد بالفرد، ولا يلزم أن يقابل الجمع بالجمع فيندرج معبود النصارى في لفظ ﴿ءَالِهَةً﴾.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٧٨