سورة الفلق
مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥٢٨
الفلق : فعل بمعنى مفعول، وتأتي أقوال أهل التفسير فيه إن شاء الله تعالى. وقب الليل : أظلم ؛ والشمس : غابت، والعذاب : حل. قال الشاعر :
وقب العذاب عليهم فكأنهملحقتهم نار السموم فأحصدوا
٥٢٩
النفث : شبه النفخ دون تفل بريق، قاله ابن عطية : وقيل : نفخ بريق معه، قاله الزمخشري. وقال صاحب اللوامح : شبه النفخ من الفم في الرقبة ولا ريق معه، فإذا كان بريق فهو التفل. قال الشاعر :
فإن أبرأ فلم أنفث عليهوإن يفقد فحق له الفقود
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾.
هذه السورة مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر. ورواية كريب عن ابن عباس مدنية، في قول ابن عباس في رواية صالح وقتادة وجماعة. قيل : وهو الصحيح. وسبب نزول المعوّذتين قصة سحر لبيد بن الأعصم اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو جف، والجف قشر الطلع فيه مشاطة رأسه عليه الصلاة والسلام وأسنان مشطه، ووتر معقود فيه إحدى عشرة عقدة مغروز بالإبر، فأنزلت عليه المعوّذتان، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد صلى الله عليه وسلّم في نفسه خفة حتى انحلت العقدة الأخيرة، فقام فكأنما نشط من عقال. ولما شرح أمر الإلهية في السورة قبلها، شرح ما يستعاذ منه بالله من الشرّ الذي في العالم ومراتب مخلوقاته. والفلق : الصبح، قاله ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد وقتادة وابن جبير والقرطبي وابن زيد، وفي المثل : هو أبين من فلق الصبح ومن فرق الصبح، وقال الشاعر :
يا ليلة لم أنمها بت مرتقباأرعى النجوم إلى أن قدّر الفلق
وقال الشاعر يصف الثور الوحشي :
حتى إذا ما انجلى عن وجهه فلقهاديه في أخريات الليل منتصب
وقيل : الفلق : كلما يفلقه الله تعالى، كالأرض والنبات والجبال عن العيون، والسحاب عن المطر، والأرحام عن الأولاد، والحب والنوى وغير ذلك. وقال ابن عباس أيضاً وجماعة من الصحابة والتابعين : الفلق : جب في جهنم، ورواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقالوا : لما اطمأن من الأرض الفلق، وجمعه فلقان. وقيل : واد في جهنم. وقال بعض الصحابة : بيت في جهنم، إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدّة حره.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥٢٩
وقرأ الجمهور :﴿مِن شَرِّ مَا خَلَقَ﴾، بإضافة شر إلى ما، وما عام يدخل فيه جميع من يوجد منه الشر من حيوان مكلف وغير مكلف وجماد، كالإحراق بالنار، والإغراق بالبحر، والقتل بالسم. وقرأ عمرو بن فايد : من شر بالتنوين. وقال ابن عطية : وقرأ عمرو بن عبيد، وبعض المعتزلة القائلين بأن الله تعالى لم يخلق الشر : من شر بالتنوين، ما خلق على النفي، وهي قراءة مردودة مبنية على مذهب باطل، الله خالق كل شيء، ولهذه القراءة وجه غير النفي، فلا ينبغي أن ترد، وهو أن يكون ﴿مَا خَلَقَ﴾ بدلاً من ﴿شَرِّ﴾ على تقدير محذوف، أي من شرّ شر ما خلق، فحذف لدلالة شر الأول عليه، أطلق أولاً ثم عمّ ثانياً. والغاسق : الليل، ووقب : أظلم ودخل على الناس، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد، وزمّكه الزمخشري على عادته فقال : والغاسق : الليل إذا اعتكر ظلامه. من قوله تعالى :﴿أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ﴾، ومنه : غسقت العين : امتلأت دمعاً، وغسقت الجراحة : امتلأت دماً، ووقوبه : دخول ظلامه في كل شيء، انتهى. وقال الزجاج : هو الليل لأنه أبرد من النهار، والغاسق : البارد، استعيذ من شره لأنه فيه تنبث الشياطين والهوام والحشرات وأهل الفتك. قال الشاعر :
٥٣٠
يا طيف هند لقد أبقيت لي أرقاإذ جئتنا طارقاً والليل قد غسقا
وقال محمد بن كعب : النهار دخل في الليل. وقال ابن شهاب : المراد بالغاسق : الشمس إذا غربت. وقال القتبي وغيره : هو القمر إذا دخل في ساهوره فخسف. وفي الحديث :"نظر صلى الله عليه وسلّم إلى القمر فقال : يا عائشة، نعوذ بالله من هذا، فإنه الفاسق إذا وقب". وعنه صلى الله عليه وسلّم :"الغاسق النجم". وقال ابن زيد عن العرب : الغاسق : الثريا إذا سقطت، وكانت الأسقام والطاعون تهيج عند ذلك. وقيل : الحية إذا لدغت، والغاسق سم نابها لأنه يسيل منه. والنفاثات : النساء، أو النفوس، أو الجماعات السواحر، يعقدن عقداً في خيوط وينفثن عليها ويرقين. وقرأ الجمهور :﴿النَّفَّاثَاتِ﴾ ؛ والحسن : بضم النون، وابن عمر والحسن أيضاً وعبد الله بن القاسم ويعقوب في رواية النافثات ؛ والحسن أيضاً وأبو الربيع : النفثات بغير ألف، نحو الخدرات. والاستعاذة من شرهن هو ما يصيب الله تعالى به من الشر عند فعلهن ذلك.
وسبب نزول هاتين المعوذتين ينفي ما تأوله الزمخشري من قوله : ويجوز أن يراد به النساء ذات الكيادات من قوله :﴿إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾، تشبيهاً لكيدهن بالسحر والنفث في العقد، أو اللاتي يفتن الرجال بتعرضهنّ لهم، وعرضهنّ محاسنهن، كأنهن يسحرنهم بذلك، انتهى.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥٢٩
وقال ابن عطية : وهذا النفث هو على عقد تعقد في خيوط ونحوها على اسم المسحور فيؤذي بذلك، وهذا الشأن في زماننا موجود شائع في صحرا المغرب. وحدثني ثقة أنه رأى عند بعضهم خيطاً أحمر قد عقدت فيه عقد على فصلان، فمنعت من رضاع أمهاتها بذلك، فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفصيل إلى أمه في الحين فرضع، انتهى.
وقيل : الغاسق والحاسد بالطرف، لأنه إذا لم يدخل الليل لا يكون منسوباً إليه، وكذا كل ما فسر به الغاسق. وكذلك الحاسد، لا يؤثر حسده إذا أظهره بأن يحتال للمحسود فيما يؤذيه. أما إذا لم يظهر الحسد، فإنما يتأذى به هو لا المحسود، لاغتمامه بنعمة غيره. قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بشر الحاسد إثمه وسماجة حاله في وقت حسده وإظهار أثره، انتهى. وعم أولاً فقال :﴿مِن شَرِّ مَا خَلَقَ﴾، ثم خص هذه لخفاء شرها، إذ يجيء من حيث لا يعلم، وقالوا : شر العداة المراجي بكيدك من حيث لا تشعر، ونكر غاسق وحاسد وعرف النفاثات، لأن كل نفاثة شريرة، وكل غاسق لا يكون فيه الشر إنما يكون في بعض دون بعض، وكذلك كل حاسد لا يضر. ورب حسد محمود، وهو الحسد في الخيرات، ومنه : لا حسد إلا في اثنتين، ومنه قول أبي تمام :
وما حاسد في المكرمات بحاسد
وقال آخر :
إن الغلا حسن في مثلها الحسد
وقول المنظور إليه للحاسد، إذا نظر الخمس على عينيك يعني به هذه السورة، لأنها خمس آيات، وعين الحاسد في الغالب واقعة نعوذ بالله من شرها.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥٢٩


الصفحة التالية
Icon