قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَمَّا كَانَ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ ﴾ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَةِ الشُّهُودِ ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ تَوَجَّهَ إلَيْهِمْ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ ؛ وَلَمَّا قَالَ فِي نَسَقِ الْخِطَابِ :﴿ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ كَانَ كَقَوْلِهِ مِنْ رِجَالِ الْمُؤْمِنِينَ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ كَوْنَ الْإِيمَانِ شَرْطًا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَالْمَعْنَى الْآخَرِ : الْحُرِّيَّةِ وَذَلِكَ لِمَا فِي فَحْوَى الْخِطَابِ مِنْ الدَّلَالَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا قَوْله تَعَالَى :﴿ إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ ﴾ إلَى قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ﴾ وَذَلِكَ فِي الْأَحْرَارِ دُونَ الْعَبِيدِ ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ عُقُودَ الْمُدَايَنَاتِ وَإِذَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ إلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، وَالْخِطَابُ إنَّمَا تَوَجَّهَ إلَى مَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْغَيْرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ الْحُرِّيَّةَ.
وَالْمَعْنَى الْآخَرِ مِنْ دَلَالَةِ الْخِطَابِ : قَوْله تَعَالَى :﴿ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ فَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ يَقْتَضِي الْإِحْرَازَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ ﴾ يَعْنِي الْأَحْرَارَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ﴾ فَلَمْ يَدْخُلْ الْعَبِيدُ فِي قَوْله تَعَالَى مِنْكُمْ ؟ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ الْإِسْلَامَ وَالْحُرِّيَّةَ جَمِيعًا، وَأَنَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ غَيْرُ جَائِزَةٍ ؛ لِأَنَّ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْوُجُوبِ وَقَدْ أَمَرَ بِاسْتِشْهَادِ الْأَحْرَارِ فَلَا يَجُوزُ غَيْرُهُمْ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى :{