قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ﴾ اقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ :﴿ رِجْسٌ ﴾ لِأَنَّ الرِّجْسَ اسْمٌ فِي الشَّرْعِ لِمَا يَلْزَمُ اجْتِنَابُهُ ؛ وَيَقَعُ اسْمُ الرِّجْسِ عَلَى الشَّيْءِ الْمُسْتَقْذَرِ النَّجِسِ، وَهَذَا أَيْضًا يَلْزَمُ اجْتِنَابُهُ فَأَوْجَبَ وَصْفُهُ إيَّاهَا بِأَنَّهَا رِجْسٌ لُزُومَ اجْتِنَابِهَا.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَاجْتَنِبُوهُ ﴾ وَذَلِكَ أَمْرٌ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ، فَانْتَظَمَتْ الْآيَةُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.
وَالْخَمْرُ هِيَ عَصِيرُ الْعِنَبِ النِّيّ الْمُشْتَدِّ، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَمْرٌ.
وَقَدْ سُمِّيَ بَعْضُ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ بِاسْمِ الْخَمْرِ تَشْبِيهًا بِهَا مِثْلُ الْفَضِيخِ وَهُوَ نَقِيعُ الْبُسْرِ وَنَقِيعُ التَّمْرِ وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمَا اسْمُ الْإِطْلَاقِ.
وَقَدْ رُوِيَ فِي مَعْنَى الْخَمْرِ آثَارٌ مُخْتَلِفَةٌ، مِنْهَا مَا رَوَى مَالِكٌ بْنُ مِغْوَلٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ :" لَقَدْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ " وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ نَقِيعُ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ وَسَائِرُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُمَا مِنْ الْأَشْرِبَةِ، وَلَمْ يَكُنْ ابْنُ عُمَرَ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ الْأَسْمَاءُ اللُّغَوِيَّةُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَشْرِبَةَ النَّخْلِ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ تُسَمَّى خَمْرًا.
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :" نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهُوَ الْفَضِيخُ "، فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْفَضِيخَ خَمْرٌ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ سَمَّاهُ خَمْرًا مِنْ حَيْثُ كَانَ شَرَابًا مُحَرَّمًا.
وَرَوَى حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ :" كُنْت أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ وَأُبَيُّ بْنَ كَعْبٍ وَسُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ فِي نَفَرٍ فِي بَيْتِ أَبِي طَلْحَةَ، فَمَرَّ بِنَا رِجْلٌ فَقَالَ : إنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَوَاَللَّهِ مَا قَالُوا حَتَّى نَتَبَيَّنَ حَتَّى قَالُوا :


الصفحة التالية
Icon