الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : تَعَلَّقَ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي ذَمِّ التَّقْلِيدِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَمَّ الْكُفَّارِ بِاتِّبَاعِهِمْ لِآبَائِهِمْ بِالْبَاطِلِ، وَاقْتِدَائِهِمْ بِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ.
وَأَكَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَمَا فَسَّرْنَاهُ فِي الْبَاطِلِ.
فَأَمَّا التَّقْلِيدُ فِي الْحَقِّ فَأَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَعِصْمَةٌ مِنْ عِصَمِ الْمُسْلِمِينَ يَلْجَأُ إلَيْهَا الْجَاهِلُ الْمُقَصِّرُ عَنْ دَرْكِ النَّظَرِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِهِ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ، فَأَمَّا جَوَازُهُ، بَلْ وُجُوبُهُ، فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ فَصَحِيحٌ، وَهُوَ قَبُولُ قَوْلِ الْعَالِمِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِدَلِيلِهِ ؛ وَلِذَلِكَ مَنَعَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يُقَالَ : إنَّا نُقَلِّدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّا إنَّمَا قَبِلْنَا قَوْلَهُ بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ، وَأَصْلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَهُوَ الْمُعْجِزَةُ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدِهِ مُوَافِقَةً لِدَعْوَاهُ، وَدَالَّةً عَلَى صِدْقِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَحْكَامَ التَّقْلِيدِ وَوَجْهَهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.
لِبَابِهِ : أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْعَامِّيِّ إذَا نَزَلَتْ بِهِ نَازِلَةٌ أَنْ يَقْصِدَ أَعْلَمَ مَنْ فِي زَمَانِهِ وَبَلَدِهِ فَيَسْأَلُهُ عَنْ نَازِلَتِهِ، فَيَمْتَثِلُ فِيهَا فَتْوَاهُ، وَعَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي مَعْرِفَةِ [ أَعْلَمَ ] أَهْلِ وَقْتِهِ بِالْبَحْثِ عَنْ ذَلِكَ، حَتَّى يَتَّصِلَ لَهُ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ وَيَقَعُ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ مِنْ الْأَكْثَرِ مِنْ النَّاسِ.
وَعَلَى الْعَالِمِ أَيْضًا فَرْضُ أَنْ يُقَلِّدَ عَالِمًا مِثْلَهُ فِي نَازِلَةٍ خَفِيَ عَلَيْهِ فِيهَا وَجْهُ الدَّلِيلِ وَالنَّظَرِ، وَأَرَادَ أَنْ يُرَدِّدَ فِيهَا الْفِكْرَ، حَتَّى يَقِفَ عَلَى الْمَطْلُوبِ ؛ فَضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ ذَلِكَ، وَخِيفَ عَلَى الْعِبَادَةِ أَنْ تَفُوتَ، أَوْ عَلَى الْحُكْمِ أَنْ يَذْهَبَ فِي تَفْصِيلٍ طَوِيلٍ، وَاخْتِلَافٍ كَثِيرٍ، عَوَّلُوا مِنْهُ عَلَى مَا أَشَرْنَا لَكُمْ إلَيْهِ.