وواحد من الأرعبة انفصلت بباطنها عن بعلها طاعة لله وتوكلا عليه وخوفا منه فنجاها وأكرمها وهي: امرأة فرعون.
واثنان منهن انفصلتا بباطنهما عن أزواجهما كفرا بالله فأهلكهما الله ودمرهما ولم ينتفعا بالوصلة الظاهرة مع أنها أقر وصلة بأفضل أحباب الله كما لم يضر فرعون وصلها الظاهر بأخبث عبيد الله.
وواحدة انفصلت عن بعلها بالباطن اتباعا للهوى وشهوة نفسها فلم تبلغ من ذلك مرادها مع تمكنها من الدنيا واستيلائها عما مالت إليه بحدبها وهو في بيتها وقبضتها فلم يغن ذلك عنها شيئا.
وقوتها بها وعزتها إنما أتت لها من بعلها العزيز. ولم ينفعها ذلك في الوصول إلى إرادتها مع عظيم كيدها. كما لم يضر يوسف عليه السلام ما امتحن به منها ونجاه الله من السجن ومكن له في الأرض، وجعل من شأنه ما قص علينا، وذلك بطاعته لربه. فلا سعادة إلا بطاعة الله ولا شقاوة إلا بمعصية الله واعتماد النفوس على الحيل جهالة والعمل بها بطالة.
فهذه كلها عبر واقعة بالفعل في الوجود من شأن كل اِمرأة منهن. فلذلك مدت تاءاتهن. فافهم والله أعلم.

باب الوصل والحجز


اعلم أن الموصول في الوجود توصل كلمته في الخط كما توصل حروف الكلمة الواحدة والمفصول معنى في الوجود يفصل في الخط كما تفصل كلمة عن كلمة.
فمن ذلك: (إِنّما) بكسر الهمزة. كله موصول إلا حرف واحد. (إنّ ما توعَدونَ لآت) فصل حرف التوكيد لأن حرف " ما " يقع على مفصل فمنه خير موعود به لأهل الخير، ومنه شر موعود به لأهل الشر فمعنى " ما " مفصول في الوجود والعلم.
ومن ذلك (إِنّما) بفتح الهمزة كلها موصول إلا حرفان.
(وَأَنّ ما يَدعونَ مِن دونِهِ هُوَ الباطِل)، (وَأَنّ ما يَدعونَ مِن دونِهِ الباطِل) وقع الفصل عن حرف التوكيد إذ ليس لدعوى غير الله فعل في الوجود إنما وصلها في العدم والنفي.
ويدلك عليه قوله تعالى عن المؤمن: (لا جَرمَ أَنّما تدعونَنَي إِليهِ لَيسَ لَهُ دَعووَةٌ في الدُنيا وَلا في الآَخِرَة).
فوصل أنما في النفي وفصل في الإثبات لانفصاله عن دعوة الحق.
ومن ذلك (كُلَما) كله موصول إلا ثلاثة أحرف: أحدها في النساء (كُلُ ما رُدوا إِلى الفِتنَةِ اُركسوا فيها).
فما ردوا إليه ليس شيئا واحدا في الوجود بل أنواع مختلفة في الوجود وصفة ردهم ليست واحدة بل متنوعة فانفصل ما لأنه لعموم شيء مفصل في الوجود.
وفي سورة إبراهيم: (وآتاكُم مِن كُلِ ما سَأَلتُمُوه) فحرف ما وقع على أنواع مفصلة في الوجود.
وفي قد أفلح: (كُلّ ما جاءَ أُمَةٌ رَسُولُها كَذّبوه).
والأمم مختلفة في الوجود فحرف " ما " وقع على تفاصيل موجودة ففصل: وهذا على خلاف حال الحرف الذي قال فيه تعالى: (كُلّما جاءَهُم رَسولٌ بِما لا تَهوى أَنفُسُهُم فَريقاً كَذبوا وَفَريقاً يَقتلون) فإن هؤلاء هم بنو إسرائيل أمة واحدة. يدلك عليه قوله تعالى: (فَلِمَ تَقتُلونَ أَنبِياءَ اللَهِ مِن قَبلُ إِن كُنتُم مُؤمِنين) والحاضرون على عهد رسول الله ﷺ لم يباشروا قتل الأنبياء من قبل إنما باشره آباؤهم، لكن مذهبهم في ذلك واحد ورأيهم فيه سواء. فحرف " ما " إنما شمل تفاصيل الزمان. وهو تفصيل لا مفصل له في الوجود إلا بالعرض والتوهم، لا بالحس. فوصلت كل لإتصال الأزمنة في الوجود وتلازم أفرادها المتوهمة.
وكذلك: (كُلَما رُزِِقوا مِنها مِن ثَمَرَةٍ رِزقاً قالوا) هذا موصول لأن حرف " ما " جاء لتعميم الأزمنة. ولا تفصيل فيها في الوجود. وما رزقوا هو غير مختلف لقوله تعالى: (وَأَتَوا بِهِ مُتَشابِهاً) ومن ذلك: (أَينَما) موصول حيث تكون " ما " غير مختلفة الأقسام في الفعل الذي بعدها مثل: (أَينَما يُوجّهِه) (فَأَينَما تُولَوا). (أَينَما ثُقِفوا أُخِذوا)، (أَينَما تَكونوا يُدرككمُ المَوت).
فهذه كلها لم تخرج عن الأين الملكي، وهو متصل حسا ولم يختلف فيه الفعل الذي مع " ما ".
ويفصل " أين " حيث تكون " ما " مختلفىة الأقسام في الوصف الذي بعدها مثل: (أَينَ ما كُنتُم تَعبُدونَ) (وَهُوَ مَعَكُم أَينَ ما كُنتُم)، (أَينَ ما ثُقِفوا إلا بِحَبلٍ مِنَ اللَهِ وَحَبلٍ مَنَ الناس).
فهذه وأمثالها أينات بعضها ملكي، وبعضها ملكوتي، وبعضها غير معلوم فهو مفصول في الوجود.


الصفحة التالية
Icon