سلسلة تفسير سورة النور [١]
إن دين الإسلام أقوم الأديان، وشريعته هي أوسط الشرائع، فقد جاء هذا الدين باليسر والتبشير، والله عز وجل بحكمته وعلمه جعل في هذا الدين حدوداً تصون المجتمع، حتى لا يتعدى حماه. وبحفظ الحدود تحفظ الأعراض والأموال، وإن من العقوبات والحدود التي أقرت حفظاً للأعراض حد الزنا، لما لانتشار هذه الفاحشة من هتك للأعراض واختلاط للأنساب، لذا فقد رتب الله لهذه الجريمة حداً يتناسب مع عظمها وخطورتها.
علم القرآن هو أفضل العلوم وأشرفها
بسم الله الرحمن الرحيم تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [القرقان: ١]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً [الإسراء: ٣٠]، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه فجعله بشيراً ونذيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً [الأحزاب: ٤٦]، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: الحمد لله الذي جمعنا في هذا المكان الطيب المبارك، والحمد لله الذي جمعنا في بيت من بيوته على أشرف كلام وأكمل نظام، جعله الله عز وجل نوراً وطريقاً إلى رحمته ودار السلام، الحمد لله الذي جمعنا على القرآن، وألف بين قلوبنا بالقرآن، وهدانا إلى رحمته بالقرآن، فليس هناك مكان أشرف عند الله عز وجل من مكان تتلى فيه آيات الله، ولا زمان أفضل من زمان يقضى في بيان كتاب الله. لذلك فإن العناية بكتاب الله عز وجل ومذاكرته وتفهُّم معانيه وترسُّم هديه، نعمة من الله تبارك وتعالى. ولذلك اصطلح العلماء رحمهم الله على تسمية هذا العلم بعلم التفسير، وإن عمَّموه قالوا: علم القرآن، وأرادوا بذلك العناية بكتاب الله عز وجل بمعرفة حدوده، والوقوف عند آياته وعظاته. ومن ثم كان أشرف العلوم وأزكاها وأعلاها: علم تفسير كتاب الله بمعرفة حلاله وحرامه، ووعده ووعيده، وبشارته ونذارته، والوقوف على أحكامه، وتبين مسائله وشرائعه، فالعناية بذلك كله توفيقٌ من الله تبارك وتعالى، ومنحةٌ وعطيةٌ من الله سبحانه وتعالى. إن كتاب الله هو حبله المتين، وصراطه المبين، وحجته على الجاحدين، ومحجته المفضية إلى رضوانه المبين، إنه كتاب الله الذي تنشرح به الصدور، وتستنير به القلوب، فكم أدمع لله عيوناً، وكم أسهر من خشية الله عز وجل جفوناً، وكم أخشع لله قلوباً، وكم أقام بين يدي الله أقداماً، وكم أصبح من أجله العبادُ صياماً، إنه كلام الله الذي هو حبل الله المتين، وعروته الوثقى، بيَّن الله عز وجل فيه الحلال والحرام، وجعله السبيل الوحيد إلى دار الكرامة والسلام، إنه كتاب الله الذي لا تنتهي عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، من ارتوى منه فقد ارتوى من المعين الصافي، ومن ارتوى من ذلك المعين فلا يضل ولا يشقى. قال بعض السلف: ضَمِن الله عز وجل لمن قرأ كتابه، فأحل حلاله وحرم حرامه؛ أن لا يضل ولا يشقى، قال الله عز وجل: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه: ١٢٣].......
حال السلف مع القرآن
هذا الكتاب هو الذي بيننا وبين الله، من أحب هذا الكتاب واطمأن لآياته وعمل بعظاته، ووقف عند حدوده، بلَّغه الله عز وجل سعادة الدارين، وأصاب الفوز في الدارين، ولذلك لما علم السلف الصالح رحمة الله عليهم حقيقةَ العلم، استعصموا بهذا الكتاب بعد الله، واستمسكوا به، فكانوا به رهبان الليل، وفرسان النهار، ظمئوا من أجله بالهواجر، وقطعوا به الليل تسبيحاً وقرآناً. فإذا أراد الله بالعبد السعادة، وأراد أن يبلِّغه مرتبة الولاية: شرح صدره للقرآن، ونور قلبه بالقرآن، وجعله محباً للقرآن، محباً لتلاوته، محباً لمعرفة أحكامه وحدوده، محباً للعمل بما علم من ذلك القرآن، وقد أشار النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى هذا الفضل العظيم والمقام الكريم، فقال عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) فشهد عليه الصلاة والسلام بأن خير العباد مَن تعلم كتاب الله، وعمل بما علم منه، وكذلك علمه للغير. وكان الصحابة رضوان الله عليهم على وعي كامل بهذه الحقيقة؛ فكان الرجل منهم يترسم كتاب الله عز وجل في ليله ونهاره.. في غيبته ومشهده؛ ففي غيبته عن الأنظار -خالياً وحيداً- يتلو كتاب الله بقلب يتدبره، وعين تخشع لآياته وتدمع من عظاته، وكذلك في المشهد على ملأٍ من الناس يفجر حكمه وأسراره، ويبيِّن أحكامه وأخباره؛ فلما كانت هذه أحوالهم رفع الله عز وجل شأنهم، وقذف في قلوب العباد محبتهم؛ فكانوا أهل القرآن، وكانت حياتهم مع القرآن.. ليلهم مع القرآن.. نهارهم مع القرآن، وأبت نفوسهم الأبية أن تخلِّف هذا الكتاب وراء الظهور حتى لقنوه صغارهم، وأدبوا عليه أطفالهم؛ فنشأ الصغير محباً لكتاب الله، وترعرع الطفل على محبة كلام الله؛ فأصبحت قلوبهم معلقةً بهذا الكتاب، وأصبحت مساجدهم تعج بأصواتهم تلاوةً للقرآن وتفسيراً. وكل ذلك يدلنا على منزلة كلام الله عند عباد الله الأخيار، وصفوته الأبرار من سلف هذه الأمة الصالح. ومن هنا نقول: لا صلاح للخلف إلا بترسم منهج السلف، كما قال الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس رحمه الله: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها).......
هجر القرآن سبب الهوان على الله
فلما تنكب العباد عن هذا الهدي القويم، وحادوا عن هذا الصراط المستقيم، وأصبح كتاب الله مهجوراً، وتلاوته غروراً، وأصبح الإنسان لا يعرف القرآن إلا بلسانه، أما العمل والتطبيق والتحقيق للغاية منه، والسير على هذا المنهج -منهج النبي والصحابة- فغائب عن واقع حياتنا. ولما أصبحنا بهذه المثابة وتنكبنا عن صراط الله، وذهبت حلاوة القرآن من القلوب، وأصبح كثير من الناس لا يجد لكلام الله أثراً، ولا يجد له لذة وعظةً في قلبه وفؤاده؛ صرنا إلى ما نحن فيه الآن. من هنا علمنا أن الداء كل الداء، والبلاء كل البلاء في إعراضنا عن كتاب الله، وصدق الله عز وجل إذ يقول في محكم كتابه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه: ١٢٤-١٢٦]. إن أحَبُّ المجالس إلى الله مجلس يُعْمَر بكلام الله، وأطيب الحديث حديثٌ يذكَّر فيه بكلام الله. ومن هنا أحببنا أن يكون هذا المجلس في تفسير كلام الله عز وجل، وفي بيان ما اشتمل عليه هذا الكلام من نَظْم بديع، ومعنى رفيع، يهدي إلى صراط الله عز وجل المستقيم، وسبيله القويم. أحببنا أن نتشرف بالتأسي بالسلف الصالح، فنُبَيِّنُ -ويُبَيَّنُ لنا- ما في هذا الكتاب من عظات، علها أن تكون سبباً لنا في القُرْب من رب الأرض والسماوات. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل هذا المجلس خالصاً لوجهه، نافعاً يوم لقائه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يوفقنا فيه لصلاح القول والعمل.......
تفسير سورة النور
قد كنتُ أحب أن أبتدئ مباشرة بتفسير هذه السورة التي اخترناها -أعني: سورة النور- ولكني نظرت إلى الجمع وعلمت أن الكثير يحتاج إلى شيءٍ نمهد به لبيان هذه السورة، وبيان مكانتها ومنزلتها، بعد أن نبين فضل القرآن وفضل العناية به؛ فلذلك أحببت أن أقدم بهذه المقدمة، وقد كان من المقرر أن نتكلم على بعض الأمور المهمة التي ينبغي لكل طالب علم أن يعتني بها في تفسير كتاب الله عز وجل؛ ولكني نظرتُ إلى الجمع ووجدت أن بيننا أناساً لهم حق علينا، وأن ذكر هذه المسائل قد يشوش عليهم، فآثرت أن يكون الكلام على قواعد التفسير ومسائله وضوابطه عند العلماء رحمهم الله هو خاتمة سورة النور إن شاء الله تعالى. وبعد أن ننتهي من تفسيرها بإذن الله عز وجل، سنتكلم بإسهاب في قواعد التفسير وضوابطه عند سلف الأمة وخلفها رحمة الله على الجميع. ونسأل الله عز وجل أن يمن علينا جميعاً بالتوفيق والسداد. وإنما قدمت بهذه المقدمة لما رأيت معنا الكثير من العوام، والذين يحتاجون إلى أن يُذكَّروا بهذه الذكرى، وإلا كان من المقرر أن نبدأ مباشرة في التفسير. وأنبه هنا على أمر: وهو أني كنت أحب أن يكون التفسير بذكر القراءات، وأوجه اللغات، والبسط في الأحكام والمسائل الفقهية، ولكني أخشى أيضاً التشويش على العامة. ومن هنا إن شاء الله سيكون تفسيرنا بإذن الله وسطاً لطلاب العلم بحيث يكون كالبداية لطالب العلم؛ لأننا لا نحب أن يكون فيه تشويش على العامة، كما ورد في الأثر: (حدثوا الناس بما يعلمون). فإن شاء الله سيكون في هذا القدر حظ لطالب العلم، وللعامي حتى تكون الفائدة للجميع. وسنبدأ إن شاء الله بسورة النور، وسيكون منهجنا بإذن الله عز وجل التركيز أكثر ما يكون على بيان العقيدة والأحكام الشرعية وما يتبع ذلك من الآداب.......
تسمية سورة النور بهذا الاسم
سورة النور، هذه السورة العظيمة سميت بالنور لقول الله تبارك وتعالى فيها: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور: ٣٥]، وهذه التسمية لهذه السورة الكريمة إنما هي من باب تسمية الشيء بما ورد فيه، فتسمية سور القرآن بما ورد فيها من الحوادث، أو بما ورد فيها من الأحكام المهمة؛ وهو منهج موجود في كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك سميت بهذا الاسم لشرف الآية المذكورة، قال العلماء: إن تسمية السور بما ورد فيها يعتبر من باب الدلالة على ذلك الجزء المسمى به، سواء كان حكماً، أو كان قصةً، أو كان خبراً. وهذه السورة مدنية بالإجماع، نزلت على النبي ﷺ في المدينة، و السور المدنية التي تمتاز ببيان الشرائع والأحكام.
خصوصية سورة النور في استفتاحها
استفتح الله تبارك وتعالى هذه السورة بتنبيه العباد إلى فضلها، وعلو مكانها ومنزلتها. فقال جل من قائل بعد أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحَيْمِ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور: ١] قد كان من عادة القرآن أن تُسْتَفتح السور فيه بمقاصده، ويذكر الله عز وجل فيها ما يذكره، ولكن هذه السورة خاصة استفتحها الله عز وجل بتنبيه العباد على عظيم شأنها، ولذلك اعتُبر من خصائص سورة النور أن الله عز وجل استفتحها ببيان فضلها، فهذه منزلة لسورة النور لم تشاركها فيها غيرها من سور القرآن.
مجمل الموضوعات التي تناولتها سورة النور
......
التحذير من اتباع خطوات الشيطان
ثم انتقلت الآيات إلى بيان أسباب الشرور والفتن والمحن كلها، وذلك في آيةٍ مشتملةٍ على وصية من الله، يقول الله عز وجل فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور: ٢١]، فرَدَّ الأمور إلى أسبابها، وأقامها في نصابها، وبيَّن أنها بسبب تتبع الشيطان، وأن الإنسان لا يُبْلى بفاحشة ولا منكر إلى من طريقه.
بيان عظمة الله بذكر آياته في الكون
ثم مضت السورة إلى ما يتبع ذلك من بيان عظمة الله تبارك و
سلسلة تفسير سورة النور [٢]
الجلد حد من حدود الله عز وجل لمن ارتكب الزنا وكان غير محصن، شرعه الله زجراً للعاصي وغيره، وتكفيراً له عما ارتكبه، ولذا فإنه لابد عند إقامته أن يكون على ملأ من المؤمنين، وبشروط مطلوبة يتحقق بها الغرض من إقامة الحد.
تفسير قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما) مائة جلدة) …
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته والتابعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد: فقد تقدم في المجلس الماضي بيان ما اشتملت عليه هذه الآية الكريمة من حد الزنا، وذكرنا فيه جملة من المسائل الشرعية التي ذكرها العلماء، والتي تتفرع على دلالة هذه الآية الكريمة. يقول الله تبارك وتعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا [النور: ٢] (اجْلِدُوا): فعل أمر، وأصل الجلد سُمي بذلك لمكان إيلامه للجلد، فسمي جلداً من هذا الوجه.......
معنى قوله: (في دين الله)
وقوله: فِي دِينِ اللَّهِ [النور: ٢] أي: في حكمه وشرعه. وقال بعض العلماء: (فِي دِينِ اللَّهِ) أي: في طاعة الله عز وجل، ولذلك قال الله عز وجل عن يوسف: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف: ٧٦] أي على نهجه وشريعته، فالمراد بقوله: (فِي دِينِ اللَّهِ) أي: في طاعته وحكمه سبحانه وتعالى.
معنى الرأفة
يقول تبارك وتعالى: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور: ٢] الرأفة: هي الرقة والرحمة وللعلماء في هذا النهي الذي ورد في هذه الآية وجهان: الوجه الأول: مِن العلماء مَن قال: إن الله تبارك وتعالى أراد بهذه الكلمة ألاَّ يمتنع الإنسان من إقامة الحد على الزاني، أو إقامة الحد على الزانية شفقةً عليهما، بل ينبغي ألاَّ تأخذه في الله لومة لائم، وينبغي عليه أن يعلم أن الله أرحم بعباده من عباده بأنفسهم، فهو الذي شرع ذلك، فلابد من مضي شرعه، ولذلك حذر الشرع أيُّما تحذير من تعطيل الحدود، ومن عطل الحد فإنه آثم شرعاً، ومرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب، ولذلك ورد في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ ما يدل على عظم شأن الحد، وأنه يُشرع للإنسان أن يدفع الحد بشرط أن لا يبلغ السلطان، فإذا بلغت الحدود إلى السلطان فلعنة الله على الشافع والمشفِّع، وهذا يدل على أنه إذا ثبت الحد الشرعي فلا وجه لتعطيله، ولا وجه للمنع منه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لما شُفع في الحد عنده: (أتشفع في حد من حدود الله؟! -استفهام إنكار، أي: ويحك هل تشفع في حد من حدود الله؟!- ثم رقى المنبر وقال: والذي نفسي بيده! إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق فيهم القوي تركوه، والذي نفس محمد بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)وهذا يدل على عظم شأن الحدود، ولذلك قال أبو هريرة رضي الله عنه فيما أُثر عنه: (إقامة حد لله خير من أن يمطر الناس مائة عام). وهذا يدل على عظم الحد عند الله، وعظم منزلته عند الأخيار من عباد الله. الوجه الثاني: يقول بعض العلماء: المراد من هذه الآية التحذير من التساهل أثناء الضرب، فيضرب الجالد ضرباً رقيقاً رفيقاً من باب الرأفة، فأراد الله عز وجل بهذه الآية الكريمة أن يكون الإنسان حال إقامته للحد على الحال الذي ينبغي أن يكون عليه من إقامة الحد، فقوله: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) على هذا القول المراد به أن يضرب الضرب الوسط الذي لا رأفة فيه ولا شدة، ولذلك قال بعض العلماء: إنه إذا ضرب لا ينبغي له أن يُبْعِد العضد عن جنبه، وإنما يضرب ولا يتكاسل في ضربه، ويكون وسطاً بين الضربين، فيضرب ضربة بين الضربتين، وهي التي يسميها بعضهم الضربة بين الحانق وهو الرجل الغضبان، وبين المتماوت الذي يضرب ضرباً يسيراً أو رفيقاً، فالمراد بهذه الآية الكريمة على هذا القول أن يكون الإنسان أثناء جلده مراعياً لحد الله، فلا يتساهل ولا يرأف بالشخص المحدود سواءً كان رجلاً أو كان امرأة، ولذلك استشهد بهذه الآية الكريمة عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه ليدلل بها على ما ينبغي أن يكون عليه الجالد. يقول الله تبارك وتعالى: إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النور: ٢]: أي: يا معشر أهل الإيمان! إن كنتم من أهل الإيمان بالله واليوم الآخر فعظموا حدود الله، وأقيموا شرع الله، ولا تأخذكم في ذلك رأفة تحول بين إقامة الحد على وجهه، بل ينبغي أن تكون الحمية لله، وأن تكون العصبية لدين الله وشرعه وحكمه.
حد العبد والأمة
يقول الله تبارك وتعالى: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ [النور: ٢]: الأمر بضرب مائة جلدة هذا عام؛ ولكن يُخصَّص من عمومه الرقيق فيضربون خمسين جلدة، وهكذا الأمة الرقيقة فإنها تُجلد خمسين جلدة لقول الحق تبارك وتعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء: ٢٥] أي: عليهن نصف ما على الحرائر من العذاب، وهذا يدل على أن العبد يُجلد نصف ما يُجلده الحر، وكذلك بالنسبة للأمة تُجلد نصف ما تُجلده الحرة.
التجريد من الثياب حال الجلْد
المسألة الثالثة: إذا جُلد الزاني أو جُلدت الزانية هل يجردان من الثياب أم تبقى عليهما ثيابهما؟ أما الزانية فاتفق العلماء رحمهم الله على أنها يبقى عليها من ثيابها ما يسترها؛ لأنه إنما يطلب إيلامها، وإيلامها يتأتى مع وجود الثوب عليها، ولأنه من المطلوب شرعاً حفظ عورة المرأة، فكشفها أمام الناس فضيحة وأذية لها وفتنة للناظر، وكل ذلك مخالف لمقصود الشرع الذي يراعي سد أبواب الفتنة، بل إن حد الزنا إنما شرعه الله لقفل باب الفتنة، فالقول بتجريدها موجب لذلك؛ فلذلك أجمع العلماء على عدم تجريدها، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه لما اعترفت المرأة بزناها قال الصحابي رضي الله عنه: (فأَمَر بها فشُكَّت عليها ثيابها، وفي رواية: فشُدَّت عليها ثيابها). فقوله: (فشُكَّت): أي: وُضِع الشوك في داخل العباءة حتى يكون بمثابة الخيط، حتى لا تتكشف إذا تحركت من شدة ضربها ورجمها. وفي الرواية الثانية: (فشُدَّت عليها ثيابها) أي: أمر النبي ﷺ أن تُشَدَّ ثيابها عليها على وجه إذا تحركت لم يبد شيء من عورتها وأعضائها. فهذه السنة تدل دلالة واضحة على أنه ينبغي ستر المرأة إذا أقيم عليها الحد. أما بالنسبة للرجل فللعلماء في تجريده أقوال: القول الأول: أنه يجرد أثناء إقامة الحد عليه، وهذا هو مذهب الشافعية والمالكية، يقولون: إنه يجرد من ثوبه. والقول الثاني: يقول بأنه لا يجرد من ثوبه، وهذا مأثور عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وقال بعض السلف: إنه لا يشرع تجريد الزاني من ثوبه. والقول الثالث: أن القاضي أو الإمام مخير، فإن شاء جرده من ثيابه إذا أراد أن يزجر الناس، وكان ذلك أبلغَ في زجره وزجرهم فإنه يشرع له أن يجرده وإلا ضربه وثيابه عليه. ولكن ينبغي أن يُعْلَم -والذي يظهر والعلم عند الله- أنه لا يُحكم بتجريده من ثيابه إلا بدليل يدل على ذلك، اللهم إلا أن يقال: إن أمر الله عز وجل بالجَلد يدل على طلب إيلام الجِلد، وذلك إنما يكون بالتجريد أكثر مما إذا كان عليه ثوبه؛ ولكن يُجاب بأنه وإن كان عليه ثوبه فإن الألم موجود، وإيلام الجِلد ممكن، فلا وجه لزيادة ذلك بطلب تجريده، ولأنه أبلغ كذلك في أذيته والإضرار به، فهو نوع عقوبة قد تكون زائدةً لعدم وجود النص الذي يدل على ذلك، فالقول بأنه يبقى عليه من الثياب ما يستره من القوة بمكان؛ لكن ينبغي أن يستثنى من ذلك الثياب الغليظة، ولذلك قال العلماء: إذا كان له ثوبان أحدهما غليظ والآخر رقيق فإنه يجرّد عن الثوب الغليظ ويطلب منه أن يلبس الثوب الذي هو أرق منه حتى لا يكون الثوب مانعاً من وصول الضرب؛ فلذلك يشرع إزالة ما يمنع من إقامة الحد على وجهه.
من يتولى الجلد
وقوله تعالى: (فَاجْلِدُوا) ظاهر هذه الآية الكريمة: أن جميع المسلمين يقومون بجلد الزاني والزانية، وليس المراد أن يقوم كل شخص بجلد الزاني، أو جلد الزانية؛ ولكن المراد أن يقوم به المعني بذلك الأمر، كما قرر ذلك المفسرون رحمهم الله، فقالوا: إن الآية أمرت بالنص العام، والمراد بها طائفة مخصوصة، وهم الحكام وولاة الأمر. فقوله: (فَاجْلِدُوا) المخاطب به ولي الأمر، ومن يقوم مقامه كالقاضي ونحو ذلك ممن يفوض في إقامة الحدود والقيام عليها. ويتفرع على هذا المعنى -استنباط أن الأمر متوجه إلى الولي الذي هو معني بإقامة الحدود- أنه لو قام إنسان فجلد زانياً أمام جماعة من الناس دون سلطة شرعية لم يسقط الحد؛ لأنه ينبغي أن يكون ذلك بالحكم الشرعي المترتب على ثبوت زناه، ثم بعد ذلك يُحكم بجلده. وقوله تعالى: (فَاجْلِدُوا) قد تقدم بيان أن الجلد إنما يكون بالسوط، والمراد ما كان من السوط وسطاً، فليس بالسوط الطري، ولا بالسوط اليابس الذي يتهشم عند الضرب به، فالمراد به كما يقول العلماء: السوط بين السوطين، أي: الذي هو وسط بين الطري واليابس الذي يتهشم عند الضرب به، وقد حُفِظَت في ذلك آثار عن أصحاب النبي ﷺ من الخلفاء الراشدين وغيرهم أنهم اعتبروا الوسط في السوط. والأصل في إقامة الحد أن يحضره من كان من أهل الفضل ونحو ذلك ممن يكون على بصيرة بأحكامه، حتى يقام الحد على وجهه الشرعي.
ما يجلد من الزاني
وقوله: (فَاجْلِدُوا) يكون الجلد -كما قلنا- بالسوط. والسؤال: ما الذي ينبغي جلده من الزاني والزانية؟ للعلماء في هذا وجهان: الوجه الأول: أنه يُجلد ظهر الزاني وحده، وهذا هو قول الإمام مالك رحمه الله. والقول الثاني: أنه يجلد سائر الأعضاء إلا الوجه والفَرْج فإنهما يُتَّقيان لمكان الضرر المترتب على ضربهما، فيفرق الضرب في سائر الظهر ونحوه من الأعضاء: كالساقين، وأسفلهما، وما علا من الظهر. وهذا الوجه هو قول جمهور العلماء، وممن نص على ذلك فقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع، واحتج الإمام مالك رحمه الله بقصر الضرب على الظهر بحديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه أنه قال: (إن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء عند النبي ﷺ فلما قذفها قال له النبي صلى الله عليه وسلم: البينة أو حد في ظهرك). وجه الدلالة من هذا الحديث الصحيح: يقولون: إن النبي ﷺ خيَّره بين أمرين: فقال: إما أن تقيم البينة على أنك صادق في أن زوجتك زانية، وإلا أقيم عليك الحد في ظهرك. فقَصَر الحد في ظهره. فدل هذا دلالة واضحة على أن الحد إنما يكون في الظهر، واحتج الجمهور بما ورد في حديث علي -يُروَى مرفوعاً وموقوفاً- رضي الله عنه وأرضاه أنه أمر بجلد الزاني فقال رضي الله عنه: (اضربه وأعط كل عضو حقه واتقِ الفرج والفخذين، واتقِ رأسه ومذاكيره). قالوا: فهذا يدل على أنه ينبغي تفريق الضرب. ثم قالوا أيضاً: وهذا الحديث رواه عبد الرزاق في مصنفه، وكذلك ابن أبي شيبة و البيهقي والصحيح أنه موقوف على علي رضي الله عنه وأرضاه، ويقول أصحاب هذا القول: إنه إذا تفرق الضرب في ال
سلسلة تفسير سورة النور [٣]
ما من مجتمع إلا وتظهر فيه بعض المظاهر السيئة، من طعن في الأعراض، أو وقوع في الفاحشة، فهذا مجتمع الرسول ﷺ قد ظهر فيه مثل هذا، ولكن جاء الشرع ووضع حلولاً لهذه المظاهر، وقام بمعالجتها معالجة سليمة، وما ذلك إلا ليحفظ للإنسان عرضه وكرامته، كما هو موضح في الآيات الكريمات من سورة النور.
الأحكام الشرعية المستنبطة من هذه الآيات
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ. وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ [النور: ٤-١٠]. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته والتابعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد: يقول الله تبارك وتعالى بعد أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: ٤]: هذه الآية الكريمة اشتملت على جملة من الأحكام الشرعية والكلام عليها ينحصر في ثلاثة مواضع: الموضع الأول: في بيان سبب نزولها. والموضع الثاني: في بيان مفرداتها. والموضع الثالث: في بيان أحكامها ومسائلها.......
سبب نزول الآية
أما سبب نزول هذه الآية فذهب سعيد بن جبير رحمه الله إلى أنها نزلت في قَذَفَة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فبيَّن الله -تبارك وتعالى- وجوب الحد عليهم، وأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقيم عليهم حد القذف -والعياذ بالله-. ومِن العلماء مَن قال: إن هذه الآية الكريمة أنزلها الله -تبارك وتعالى- على العموم، وأراد أن يقرر بها صيانة أعراض المسلمين، حتى لا يستطيل المسلم على عرض أخيه، فأدّب الألسن لئلا تسترسل في أعراض الناس بالتهم والظن الذي لا أصل له.
معاني الرمي
يقول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) الرمي في لغة العرب يطلق على معنيين: الرمي الحسي: كرمي الحجر وهو قذفه، ومنه قوله تبارك وتعالى: تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [الفيل: ٤]. والرمي المعنوي: وهو السب والنقيصة والتهمة بالسوء والعياذ بالله، فيقال: رمى الرجلُ الرجلَ إذا اتهمه بالسوء والعياذ بالله وانتقصه في عرضه، فالرمي بهذا المعنى يستعمل فيما يُسْتَبْشَع والعياذ بالله من الألفاظ الخبيثة، ومنه قول الشاعر: رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً ومن أجل الطوي رماني أي: رماني بتهمة سوء قد كنتُ منها ووالدي بريئين، فمعنى الرمي انتقاص الشخص الذي يُتَّهم. يقول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ) أي: يقذفون، والمراد بهذه الآية اشتراط شيءٍ معين، وهو أن يحصل لفظ معين من الإنسان، وهذا اللفظ يتضمن تهمة الإنسان بالزنا والعياذ بالله، سواءً كان المتهم رجلاً أو كان امرأة، صالحاً كان أو فاسداً ما دام أنه من المسلمين.
الأقوال في معنى المحصنات والإحصان
وقوله سبحانه وتعالى: (الْمُحْصَنَاتِ) قيد، والمحصنات جمع محصنة، وللعلماء في معناها أربعة أقوال: القول الأول: المراد بالمحصنات: العفيفات. والقول الثاني: المراد بذلك: الفروج المحصنة. والقول الثالث: الأنفس المحصنة. والقول الرابع: أن الآية جاءت للمغايرة، فذكر الله فيها قذف الأجنبية حتى يُرَكِّبَ عليها قذف الزوج لزوجته، كما سيأتي بيانه وبيان أحكامه ومسائله إن شاء الله. والإحصان في اللغة معناه: المنع، ومنه الحصن؛ لأنه يمنع الإنسان الذي بداخله من أن يصله السوء من خارجه، ومنه قوله تبارك وتعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [الأنبياء: ٨٠]، أي: لتقيكم ضربات السيف والقنا، فقوله: (لتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) أي: تحفظكم من أذى الحروب. فالشاهد: استعمال الإحصان بمعنى المنع. يقول العلماء: سُمِّيت المرأةُ العفيفةُ محصنةً؛ لأنها تمتنع عن الأمور التي لا تليق بها من الفاحشة وما في حكمها. فقوله -تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) المراد به: العفيفات، والمرأة المحصنة هي المرأة العفيفة الحافظة لعرضها، ومن ذلك قول حسان بن ثابت يمدح أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعنه: حصان رزان ما تُزَنُّ بريبةٍ وتصبح غرثى مِن لحوم الغوافلِ (حصان) أي: عفيفة. فالمرأة المحصنة هي العفيفة، وُصفت بذلك لأنها أحصنت فرجها، فحفظته مِن أن يُتَوَصَّل إليه بغير طريق شرعي معتبر. يقول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ)، والسؤال: كيف يتحقق رمي المحصنات؟ رمي المحصنات يفتقر إلى لفظ مخصوص، وسيأتي إن شاء الله بيانُ الألفاظ التي إذا خاطب بها الإنسانُ غيرَه والعياذ بالله كان قاذفاً متوَعَّداً بالوعيد الذي اشتملت عليه هذه الآية الكريمة. يقول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) ليس المراد من هذه الجملة أن الوعيد والعذاب مختص بمن قذف النساء، بل إن الحكم عام، فكل من قذف مسلماً أيَّاً كان رجلاً أو امرأة فإن الله تبارك وتعالى توعده بما جاء في الآية.
أمور يجب مراعاتها عند الحكم على القاذف والمقذوف
يقول الله تعالى: (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) هذه هي الجملة الثانية: وهي على أمرين: الأمر الأول: أن الزنا يثبت بشهادة أربعة شهود ذكور عدول، وذلك يدل على أنه إذا وُجِد هذا الشرط، وهو اكتمال البينة بأربعة شهود ثبت الزنا. وقوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) يدل على الأمر الثاني وهو: أن حد القذف لا يثبت إلا إذا لم يُقِم الإنسان بينة كاملة، وهي أربعة شهود، ولو أن إنساناً قذف غيره فقال له والعياذ بالله: يا زانٍ، أو قال لامرأة: يا زانية، ولم يُقِم إلا ثلاثة شهود، فإنه يجب أن يجلد الحد، وأن يجلد بقية الشهود أيضاً الحد، وفي هذا دليل على صيانة الله عزَّ وجلَّ لأعراض المسلمين. فانظر رحمك الله! إلى هذه الآية الكريمة؛ يخاطب الله عزَّ وجلَّ بها خير الأمة وأفضلها بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم أصحابه الكرام الفضلاء الأعلام. يقول تعالى: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ [النور: ٤]، فلو أن ثلاثة من الصحابة شهدوا ولم يكتمل النصاب -أربعة- لوجب إقامة الحد عليهم جميعاً على المدعي والشهود الذين معه؛ لأنهم قَذَفَةٌ، كما فعل ذلك عمر رضي الله عنه بمن قذف المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه. وقوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) أي لم يحضروا أربعة شهداء، و المراد بهم الذكور، وأما الإناث فإن شهادتهن في الحدود فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله كما سيأتي إن شاء الله!......
أمور توجب الحد على القاذف
وقوله تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ [النور: ٤]: هذه هي الجملة الثالثة، تدل على أنه إذا تحقق الأمران: الأمر الأول: وهو قذف الإنسان لغيره وذلك باتهامه بالزنا رجلاً كان أو امرأة. والأمر الثاني: أنه لا بينة عنده، ولم يقر المقذوف بأنه زان، فحينئذ يقول الله تعالى مبيِّناً العقوبة المترتبة على هذا الأمر: العقوبة الأولى: أشار إليها بقوله: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور: ٤]. والعقوبة الثانية: أشار إليها بقوله: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً [النور: ٤]. والعقوبة الثالثة: أشار إليها بقوله سبحانه: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: ٤]، أي: فَسَقَةٌ -والعياذ بالله- خارجون عن طاعة الله ومحبة الله. فهذه ثلاث عقوبات لمن قذف أخاه المسلم، أو قذف أخته المسلمة بدون بينة.......
صور القذف
المسألة الأولى: بم يتحقق القذف؟ يتحقق القذف باللفظ الصريح الدال عليه، وذلك بأن يتهم الإنسانُ غيرَه رجلاً كان أو امرأةً من المسلمين بالزنا، فيقول له -والعياذ بالله-: يا زانٍ، أو يقول للمرأة: يا زانية، أو يتهم أبا المقذوف، فيقول له: يا ابن الزاني، أو يتهم أم المقذوف -والعياذ بالله- فيقول: يا ابن الزانية، فهذا لفظ صريح يدل على التهمة بالزنا، أو يتهمه بفاحشة في حكم الزنا على خلاف بين العلماء، كأن يقول له: يا لوطي، أو يا ابن اللوطي والعياذ بالله. فكل هذه الألفاظ توجب ثبوت القذف أي: التهمة، وتعتبر من الألفاظ الدالة على ثبوت لفظ القذف، أي: الألفاظ الصريحة.......
اللفظ غير الصريح
هناك نوع ثانٍ من الألفاظ: وهي الألفاظ المحتَمِلة التي يُقْذَف بها تعريضاً، ولا يُقْذَف بها تصريحاً، مثال ذلك: أن يقول الرجل للرجل -في حال الخصومة وفي حال المنازعة- إني لستُ بابن زانٍ، أو لستُ أنا بزانٍ، أو لستُ مِن أهل الزنا، كأنه يقول له: أنت من أهل الزنا، فهذا يسميه العلماء: القذف بالتعريض، أي: أنه لم يباشره بلفظ يدل صراحة، وإنما أعطاه لفظاً يحتمل المعنى الذي هو ظاهره، ويحتمل المعنى الآخر.
اختلاف العلماء في القذف بالتعريض
إن للعلماء في القذف بالتعريض قولين: القول الأول: مذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع أن من قذف أخاه تعريضاً أنه لا يجب عليه حد القذف وإنما يعزر. القول الثاني: من قذف أخاه تعريضاً فإنه يجب أن يُحَدَّ حد القذف، كالحال فيمن قذف تصريحاً، وهذا هو مذهب الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع، يقول الإمام مالك والإمام أحمد في رواية: مَن قال لأخيه: لست بابن زنا، أو ما أنا بابن الزنا، ونحو ذلك من الألفاظ التي يُفْهَم منها أنه يتهم صاحبه، فإنه يُعْتَبَر قاذفاً والعياذ بالله. واستدل الجمهور بما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً قال له: (يا رسول الله! إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هل لك من إبل؟...) الحديث، وجه الدلالة أن الرجل اتهم امرأته تعريضاً ولم يصرح، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر بإقامة الحد عليه، وقال أصحاب هذا القول: إن في اللفظ احتمالاً، وبناءً على ذلك فالأصل براءة المتكلم، حتى تثبت إدانته وتهمته على وجه لاشك فيه ولا مرية. أما أصحاب القول الثاني فاحتجوا بأدلة، أقواها: قول الله تبارك وتعالى في بني إسرائيل: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِ
سلسلة تفسير سورة النور [٤]
إشاعة الفواحش من أعظم المعاول التي تهدم المجتمع، وتقطع العلاقات، وتخرب البيوت، وفي حادثة الإفك يبين الله تعالى واجب المؤمنين والمؤمنات تجاه ما يسمعونه من شائعات على إخوانهم المسلمين، وأن عليهم أن يضعوا أنفسهم مكان ذلك المتهم، فيظنوا به خيراً. وهذه الآيات قد نزلت في براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مما قذفها به عبد الله بن أبي وحزبه، ومن انخدع به فخاض معه في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
آية الإفك وسبب نزولها
أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرَّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور: ١١-٢١]. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته والتابعين، ومَن سار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد: ففي هذه الآيات الكريمة بيَّن الله تبارك وتعالى فيها قصة الإفك أو حادثة الإفك، وهي من أعظم الحوادث التي وقعت في العصر المدني، والتي عايش النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحزانَها، وعايشت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بلاءها وأشجانَها، وعايش أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كَرْبها. هذه الآيات الكريمة نزلت في حادثة الإفك، والأصل فيها ما ثبت في صحيح البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما غزا غزوة بني المصطلق -وتسمى: غزوة المريسيع، وقد سميت غزوة بني المصطلق اعتباراً لمن غزاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهم بطن من خزاعة، وسميت بغزوة المريسيع؛ لأن الماء الذي نزل عليه هذا الحي يسمى بماء المريسيع، وقد كانت سنة ستٍِ كما قاله بعض أهل السير- لما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرج لهذه الغزوة، وكان من هديه صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد الغزوة أن يُقرِع بين نسائه، فمن خرجت لها القرعة خرجت معه عليه الصلاة والسلام، وشاء الله عز وجل أن تكون القرعةُ في هذه الغزوة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فخرجت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا انتهت الغزوة، آذَنَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابَه بالرجوع إلى المدينة، فلما علمت عائشة رضي الله عنها برحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإرادته الرجوع إلى المدينة خرجت لقضاء حاجتها، وكان الجيش لا كنيف فيه، فخرجت تبعد عن القوم من أجل قضاء حاجتها رضي الله عنها وأرضاها حتى إذا توارت عن الجيش وقضت حاجتها، رجعت إلى منزلها وخبائها الذي نزلت فيه، فإذا بها قد فقدت عِقداً لها من جزع ظفار -والجزع: أصله الخرز، وقولهم: جزع ظفار؛ المراد بظفارٍ: موضع قِبَل اليمن، وهو المعروف الآن بعُمان، أُضيف إلى هذا البلد لكونه يُصنع فيه-، ففقدت هذا العقد، فخرجت رضي الله عنها وأرضاها إلى الموضع الذي قضت حاجتها فيه حتى تجد العِقد الذي فقدته، وشاء الله عز وجل لما خرجت جاء الذي يقود جملها وحمل مع آخرين هودجها، وكانت رضي الله عنها خفيفة صغيرة السن، فلم يستبعد وجودَها في الهودج ولم يستغرب من خفة الهودج رضي الله عنه، فسار به وهو يظن أن أم المؤمنين رضي الله عنها داخل الهودج، فخرجت حتى إذا وجدت حاجتها رجعت إلى منزلها، وإذا بالجيش قد ارتحل فرجعت إلى موضعها علَّهم أن يفقدوها ثم يرجعوا في طلبها، وشاء الله عز وجل أن يدركها النوم، فنامت في الموضع الذي هو منزل لها حين نزل الجيش، فجاء صفوان بن المعطل رضي الله عنه وأرضاه، قالت: فنمتُ، فما راعني إلا صوت صفوان رضي الله عنه وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. وكان صفوان رضي الله عنه يعرفها قبل نزول آية الحجاب، قالت: فأخذت الخمار فغطيت به وجهي وأعرض عني رضي الله عنه، ووالله ما كلمني بكلمة، وأناخ لها البعير رضي الله عنه وأرضاه. - صفوان بن المعطل صحابي جليل له فضله، فإنه لما اتُّهم بأم المؤمنين رضي الله عنه وعنها وأرضاهما، قال: (والله! ما كشفتُ كنف أنثى). أي: ما زنيت بامرأة قط، وهذا من عفته رضي الله عنه وأرضاه، واستُشهد رضي الله عنه في خلافة عمر سنة تسع عشرة في غزوة أرمينية، وقيل: إنه قُتل رضي الله عنه في خلافة معاوية سنة ثمان وخمسين من الهجرة، فالشاهد: أن هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه، لما رآها أناخ لها البعير، وقد كان من ساقة الجيش، والساقة يتفقدون مَن وراء الجيش، لكي يعينوه إذا أصابه العجز عن المسير، أو حصل به ضرر -لا سمح الله- قالت: فاحتملني فما كلمني بكلمة حتى دخل بها المدينة، فرآهما عدو الله عليه مِن الله اللعنة عبد الله بن أبي بن سلول فقال مقالته الخبيثة، قال: والله! ما نجا منها ولا نجت منه. فاتَّهمها رضي الله عنها وأرضاها، ونسبها إلى الذي هي منه بريئة، وشاء الله عز وجل ما شاء، فخاض الناس في شأن عائشة رضي الله عنها وأرضاها، واتهموها بما اتهمها به عدو الله، وكان المسلمون على طوائف: - منهم من أنكر وكذب إبقاءً لبراءة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها. - ومنهم من حمل الحديث ونقله دون أن يصدقه ولكن كان يشهِّر به في المجالس. - ومنهم من سمعه وصدقه. فأصبح الناس ما بين مصدِّق ومكذِّب، وناقل للحديث. ومضى على ذلك شهر كامل، وشاء الله عز وجل أن عائشة رضي الله عنها لم تكن على علم بكلام الناس فيها، فبمجرد أن أدخلها صفوان إلى المدينة أصابها المرض فاشتكت، فذهبت إلى بيت أبيها فجلست فيه رضي الله عنها وأرضاها، والناس يتكلمون في عرضها، وهي غافلة لا تدري من حديث الناس شيئاً، حتى شاء الله عز وجل في يوم من الأيام أن تخرج إلى المناصع -وهو موضع شرقي المدينة- لقضاء حاجتها، وكانت معها أم مسطح بن أثاثة رضي الله عنهما، فلما رجعت من قضاء حاجتها عثرت أم مسطح في مِرْطها، فقالت: تعس مسطح، فلما قالت هذه المقالة، عتبت عليها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن قالت هذه المقالة في حق ابنها، وكان مسطح ممن خاض في حديث عائشة رضي الله عنها، وتهمتها، فلما ردت عائشة مقالة أم مسطح أخبرتها أم مسطح بالخبر، قالت عائشة : فذكرت لي الحديث، فسألتها: هل علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك؟ فأخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علم بذلك، ثم سألت: هل علم أبوها وأمها بذلك؟ فقالت: نعم، فخرَّت مغشياً عليها رضي الله عنها وأرضاها، وشاء الله عز وجل ما شاء من فتنتها بهذه المقالة، وأصابتها الحمى، وجعلَتْ تنفض من شدة ما وجدت من التهمة والزور والبهتان فيها رضي الله عنها وأرضاها، ثم شاء الله عز وجل ما شاء، فمَضَت عليها ثلاث ليال لا تنام لها عين ولا ترقأ عن الدمع رضي الله عنها وأرضاها، قالت: فلما كانت الليلة الثالثة جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليها، وقال: يا عائشة ! إن كنت أذنبت ذنباً فاستغفري الله وتوبي إليه، فقالت لأبيها: أجب رسول الله، فما استطاع أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أن يتكلم، وقالت لأمها: أجيبي رسول الله، فما استطاعت أمها أن ترد الحديث على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما غلبهما ما غلبهما من العي والحصر في جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: والله! لئن قلتُ لكم: إني لم أفعل لم تصدقوني، ولو قلت لكم: إني فعلتُ صدقتموني، فوالله! ما فعلت؛ ولكن الله سيبرئني، ثم قالت: ولكن أقول كما قال أبو يوسف -عجز عنها اسم يعقوب عليه السلام من شدة ما وجدت رضي الله عنها من الهم والحزن-: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف: ١٨]، فاستعانت بالله عز وجل، فما قضت حديثها حتى نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبرأها الله عز وجل من فوق سبع سماوات رضي الله عنها وأرضاها، فكانت هذه الحادثة من أشد الحوادث المدنية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنزلت هذه الآيات التي صبَّرها الله عز وجل بها، وهي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرَّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ......
تفسير (الإفك - العصبة)
يقول الله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ [النور: ١١]: الإفك: هو الكذب والبهتان، والقول الذي لا أصل له، والمراد بالإفك هنا: إفكٌ مخصوص، وليس المراد به كلُّ إفك، ووصفه الله تبارك وتعالى بالكذب إشارةً إلى عدم صحته وبطلانه. يقول الله تبارك وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ): فكأن هذا الكلامَ لا أصل له، وإنما هو ناشئٌ من الشخص الذي تكلم به، فجاء التعبير القرآني بهذا الأسلوب الذي يدل على اختلاق هذا الكلام، وأنه لا أصل له ولا حقيقة. وقوله: (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) العصبة في اللغة: مأخوذة من تعصيب الشيء، والمراد به: الإحاطة بالشيء، ومنه العصابة التي يُشَد بها الجرح، وتُشَد بها الشجاج، ومن ذلك أيضاً: العصابة التي توضع على الرأس؛ لأنها تحيط به، وعصبة الرجل هم قرابته، وقد سُموا بذلك؛ لأنهم يحيطون به عند الشدائد، فإذا احتاج إليهم أحاطوا به، ودفعوا عنه بإذن الله عز وجل، فيوصفون بكونهم عصبة من هذا الوجه.......
المقصود بالعصبة
قوله تعالى: (عُصْبَةٌ): العصبة: قيل: إنهم الثلاثة، وقيل: الأربعة، وقيل: إلى عشرة، والمراد بهم هنا: - رأس الإفك وهو: عبد الله بن أبي بن سل
سلسلة تفسير سورة النور [٥]
إن من كمال حراسة الله عز وجل لفضيلة في المجتمعات الإسلامية، أن أمر بغض البصر، وحرم الاختلاط والتبرج والسفور؛ ومن حرص الشارع على نقاء المجتمع حرم حتى الكلام الذي يفضي إلى الفاحشة، وكل ما يزينها أو يسوغ وقوعها.
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا...)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته والتابعين، ومَن سار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد: يقول الله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور: ١٩]. هذه الآية الكريمة اشتملت على ثلاثة أمور: الأمر الأول: تحريم إشاعة الفاحشة بين أهل الإيمان. والأمر الثاني: بيان عاقبةِ مَن أشاع الفاحشة في الذين آمنوا. والأمر الثالث: بيان صفةٍ مِن صفات الله تبارك وتعالى.......
في الآية بيان صفة من صفات الرحمن
الأمر الثالث الذي اشتملت عليه هذه الآية الكريمة: فصفة تدل على عظمة الواحد الديان، ختم بها هذه الآيات الكريمة حتى ينبه العباد بفضل هذا الكتاب، وأنه سبيل الخير والهدى والصواب. يقول الله تبارك وتعالى مشيراً إلى هذه الصفة الكريمة: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور: ١٩] وللعلماء في تفسير خاتمة هذه الآية الكريمة وجهان: - منهم مَن قال: إن المراد بها الخصوص، أي: أن الذي تقدم مِن قولنا: إن المراد بالآية قَذفَة عائشة وإشاعة الفاحشة عنها، يكون قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ) أي: يعلم أن هؤلاء كاذبون ومفترون فيما قالوه، وأن الذين يشيعون الفاحشة في الذين آمنوا أنهم أهل كذب، لا حقيقة لما قالوه ولا صدق لما أذاعوه، فالله يعلم كذبهم، وأنتم لا تعلمون. هذا هو الوجه الأول. - وأما الوجه الثاني: فهو أن قوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي: يا عبادي! هذا حكمي أن أعذب أهل الفواحش، الدعاة إليها والممهدين لسبيلها، وأنا أعلم بخلقي، وأعلم بالحكم الذي شرعته لهم من عذاب الدنيا إذا قذفوا، وعذاب الآخرة إذا صاروا إلى الله ولم يتوبوا، فقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ) يكون معناه على هذا الوجه الأخير، أي: أن هذا الشرع الذي شرعته لكم مِن عقوبة مَن يشيع الفاحشة في الدنيا والآخرة إنما هو شرع العليم الذي يعلم عواقب الأمور، وفي هذا إشارة إلى العواقب الوخيمة التي تتأتى أو تحصل بسبب إطلاق الناس لألسنتهم بالفواحش، أي: والله حرَّم ذلك لعلمه بما يئول إليه الأمر من أذية المسلمين، ولذلك لو أن إنساناً اتُّهم في عرضه لم ينم ليلته، ولم يرتح في يومه، وكذلك لم يرتح في عبادته وصلاته لربه، بل إن عائشة رضي الله عنها لما بلغها قذفُها مكثت ثلاث ليالٍ لا تنام لها عين، ولا يجف لها دمع من البكاء والدموع. فاتهام الناس في أعراضهم، وإشاعةُ الفاحشة عنهم أمرٌ خطير، ولا يعرف قدره إلا الله عز وجل علام الغيوب، ولربما أن الإنسان إذا أشاع الفاحشة عن رجل أنها تضر بيته كله، فلا تُنْكَح بناتُه ولا أخواتُه، ولربما يسترسل ذلك إلى عواقب لا يعلمها إلا الله، فلا يستغرب المؤمن من هذا الوعيد الذي توعد الله به أهل إشاعة الفاحشة! فلا تعجب -أيها المؤمن- من ذلك فالله عليم بخلقه، حكيم في أمره ونهيه! وهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يسلم لله عز وجل ويذعن له، فإذا بلغه الحكم عن الله علم أن شرع الله هو الغاية، وأنه هو النهاية في العدل وفي اللطف بالعباد والرحمة. والله أعلم.
عاقبة من أشاع الفاحشة بين المؤمنين
أما الأمر الثاني: قوله تعالى: لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور: ١٩]: فهذا المقطع من الآية الكريمة دل على أن من أحب انتشار الفاحشة في المؤمنين أن الله عز وجل يعاقبه في الدنيا والآخرة، وللعلماء في هذه الآية وجهان، كلاهما مركبان على ما سبق في صدر الآية الكريمة عند بيان الأمر الأول، وهما: - أن الآية إما أن يراد بها الخصوص أي: قَذَفَة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فنقول: إن قوله تعالى: (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) المراد منه أن من قذف أم المؤمنين عائشة و صفوان بن المعطل رضي الله عن الجميع فإن الله سيعذبه في الدنيا والآخرة، أما عذاب الدنيا: فحد القذف الذي أقامه النبي صلى الله عليه وسلم، وأما عذاب الآخرة: فلأن الإنسان إذا قذف غيره ولم يتب إلى الله فإن الله سيعذبه في الآخرة، نسأل الله السلامة والعافية، ولذلك سيأتي في الآيات الكريمة التالية بيان أن الله عز وجل يعذبهم في الآخرة بعذابين عظيمين: أما العذاب الأول: فهو أن يفضحهم كما فضحوا أولياءه، ويشهِّر بهم على رءوس الأشهاد أمام الأولين والآخرين، فيقيمهم في عرصات يوم الدين، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ [الشعراء: ٨٨] فتشهد عليهم الألسنة بأنهم كذبوا على عباد الله، واتهموا أولياء الله، وأنهم أشاعوا الفاحشة بين عباد الله، وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما سعوا به في ذلك. فلذلك أخبر الله عز وجل عن هذا العذاب الأول، ثم أخبر عن العذاب الثاني وهو: عذاب النار وبئس القرار، نسأل الله عز وجل أن يعيذنا من ذلك، وأن يرزقنا عفة اللسان عن عباده وخلقه، والأدب في نقل الحديث عنهم وترويج الأخبار عنهم، فالمقصود: أن هذا المقطع الثاني من الآية الكريمة إن كان المراد مِن صدرها أم المؤمنين وصفوان بن المعطل، فالمراد بقوله: (عَذَابٌ أَلِيْمٌ) أي: حد القذف في الدنيا، وعذاب الآخرة بعذاب النار والفضيحة أمام الأشهاد؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فمن فضح عباد الله وتتبع عورات المسلمين وشهَّر بهم بالزور والبهتان، كان حقاً على الله عز وجل أن يعامله بما فعل، فكما شهر بالمؤمن في الدنيا يشهر الله به في الآخرة، وكما فضح المؤمنين يفضحه الله على رءوس الأولين والآخرين، وشتان ما بين الفضيحتين! وشتان ما بين العذابين! - ثم هناك وجهٌ ثانٍ في قوله: لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور: ١٩]: وهو أنه إذا قيل: إن المراد بالآية غير قَذَفَة عائشة، فيكون المعنى: كل مَن روَّج الشائعات التي تفضي بحصول الفحشاء، وانتشارها بين أهل الإيمان، أو كان داعية إلى الفجور كدعاة الزنا ودعاة الخمور ونحو ذلك ممن ينشرون ما حرم الله، ويدعون إليه، ويسهلون السبيل لبلوغه والوصول إليه، هؤلاء لهم عذاب أليم في الدنيا، ولهم عذاب أليم في الآخرة، فشهد الله عز وجل أنه سيعذبهم بعذابين، ولذلك تجد دعاة الباطل والهوى وأصحاب الفسوق والردى في عذابٍ وقلق نفسي لا يعلمه إلا الله عز وجل، فيعذبهم الله في أنفسهم، فإذا فتشت عن قلب أحدهم وجدته أشد ما يكون احتراقاً والعياذ بالله من داخله، يتلذذ بالشهوات في جسده، يصيب الزنا والخمور واللواط والعياذ بالله وغيرها من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وفي داخله يحترق جحيماً والعياذ بالله، في قلق واضطراب لا يعلمه إلا الله عز وجل جَزَاءً وِفَاقاً [النبأ: ٢٦]، وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل: ٣٣] ولذلك تجدهم مهما تلذذوا بالشهوات يسلبهم الله عز وجل لذتها، فيشربون الخمر ليجدوا لذة الساعة، وبعدها يجدون عذاب الدهر والعياذ بالله، فهذا هو عذاب الدنيا، ولربما يعذبهم الله عز وجل في الدنيا بصرف القلوب عنهم، والأنظار، ولذلك تجد أهل الفحش والعياذ بالله في سُخْط من الناس، مهما عجبت الناس من أفعالهم وأقوالهم لكنهم لهم كارهون، ولسبيلهم مجانبون، فالمقصود أن الله يعذبهم بذلك في الدنيا، وأما عذاب الآخرة: فعند لقاء الله عز وجل فيعذبهم الله تبارك وتعالى بما شاء من فتن القبور وأهوالها، وفتن النشور وشدائدها، وكذلك فتن جهنم وعذابها، نسأل الله السلامة والعافية من جميع ذلك. فالمقصود: أن الآية إذا حُملت على العموم فإن المراد بها: أن الله يعذب كل مَن آذاه بإشاعة الفاحشة بين عباده المؤمنين في الدنيا والآخرة. ولذلك قال بعض العلماء رحمهم الله: إن الغالب في الإنسان إذا دعا إلى الشهوات والفواحش ألاَّ يسلم له عقله، ولذلك قال الله عز وجل حينما نهى عن الفواحش: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُوْنَ) والغالب أن صاحب الفاحشة مع دعوته إليها أن تجد فيه خفةً وطيشاً في العقل والعياذ بالله؛ لأن العقل يَعْقِلُ صاحبَه عن الأمور الرذيلة، فإذا اجترأ على حدودَ الله عز وجل سلبه الله نورَ العقل، ولذلك كم رأينا وسمعنا من عواقب كُتَّاب وشعراء وغيرهم ممن دعوا إلى الفواحش، كانت أوبأ العواقب وأسوأها والعياذ بالله، حتى ولو كان ذلك بمجرد كلمة يشيعها ويذيعها نسأل الله السلامة والعافية من جميع ذلك.
تحريم إشاعة الفاحشة
أما الأول: وهو تحريم إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا: فقد تضمنه قوله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) إذ بينت هذه الآية الكريمة تحريم إشاعة الفاحشة بين أهل الإيمان، وللعلماء في هذه الآية الكريمة وجهان: الوجه الأول: أن المراد بها طائفة مخصوصة، أو قوم مخصوصون، وهم الذين تكلموا في حادثة الإفك، أي: أراد الله تبارك وتعالى بهذه الآية الكريمة أن يزيد في تقريع المنافقين، وأولئك المؤمنين الذين تبعوا أهل النفاق في حكاية ما قالوه من الطعن في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، واتهامها بالزنا، فوصفهم الله تبارك وتعالى بهذه الصفة أنهم قوم يحبون أن تشيع الفاحشة أي: نسبة أهل الإيمان إلى فعل الزنا والعياذ بالله، وأنهم يحبون ذلك؛ لكونهم يبغضون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لضعف إيمانٍ أوجب لهم الوقوع في هذا الأمر العظيم. وبناءً على هذا الوجه فإن قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ). يراد بقوله (الْفَاحِشَةُ): شيءٌ مخصوص وهو: التهمة بالزنا. وقوله (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) أي: بنسبة عائشة رضي الله عنها و صفوان بن المعطِِّل رضي الله عنه إلى الزنا زوراً وبهتاناً. (يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ) فوصفهم الله تبارك وتعالى بأنهم قوم يحبون ويرضون بإشاعة الفاحشة بين أهل الإيمان. أما الوجه الثاني عند العلماء: أن المراد من هذه الآية العموم، أي: أن الله تبارك وتعالى أراد أن يؤدب أهل الإيمان بها، فلا يكون المؤمن ناقلاً لحديث الفاحشة، مشيعاً له بين الناس دون تَرَوٍّ ولا تَثَبُّتٍ ولا تَتَبُّعٍ لحقيقة الأمر الذي يقوله. وبناءً على هذا الوجه الثاني يكون قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ) أراد الله منه أن يبين طائفة من الناس ابتُليت بهذا المرض والعياذ بالله، وهو نقل الأحاديث القبيحة بين الناس. ويكون قوله: (يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ) يقال: شاع الخبر يشيع شيوعاً إذا ذاع وانتشر أي: يحبون أن تذيع الفاحشة وتنتشر بين أهل الإيمان، وهذا من أبغض الصفات، ذلك أن الفاحشة إذا سُتِرت ولم تتعد موضعها، ووئدت في مهدها بأن اقتصرت على الشخص الذي فعلها، وسُتِر إن كان الله ستره
سلسلة تفسير سورة النور [٦]
إن خطر اتباع خطوات الشيطان لا يخفى على مسلم، فوسائل الشيطان طريق كل فاحشة وباب كل منكر، ولقد امتن الله على عباده المؤمنين بأن يسر لهم أسباب اجتناب ما يفضي إلى اتباع الشيطان. ولقد بين الله عز وجل في سورة النور عظم الأجر المترتب على التجاوز عن المسيء، وبذل الصفح للمخطئ، وأن ذلك سبب لنيل مغفرة الله، ورفعة الدرجات يوم القيامة.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتعبوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان)
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته، والتابعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول الله تبارك وتعالى بعد أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور: ٢١]. هذه الآية الكريمة اشتملت على ثلاثة أمور: الأمر الأول: نهي الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين عن اتباع سبيل الشيطان الرجيم. والأمر الثاني: بيان العاقبة التي ينتهي إليها كل من اتبع الشيطان في أوامره وسبُله. وأما الأمر الثالث الذي اشتملت عليه الآية الكريمة: بيان أن الله تبارك وتعالى هو المتفضل على عباده، يرحم من يشاء بهدايته، ويزكي من يشاء بفضله، سبحانه وتعالى.......
عاقبة اتباع خطوات الشيطان
وقوله سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور: ٢١] هذا هو المقطع الثاني من الآية الكريمة، بيَّن الله تبارك وتعالى فيه عاقبة من اتبع سبيل الشيطان، وأطاعه في اتباع تلك الخطوات، بيَّن العاقبة التي ينتهي إليها في الدنيا، فقال سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور: ٢١]. (فَإِنَّهُ) أي: الشيطان. (يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) وهي: جمع فاحشة، والفحشاء: المراد بها الفاحشة، وقد تطلق على القول الذي لا يحبه الله تبارك وتعالى، وقد تطلق على الفعل: فمن إطلاقها على الفعل: قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً [الإسراء: ٣٢] فأخبر سبحانه وتعالى أن الزنا فاحشة مع أن الزنا فِعْل من الأفعال، فهذا من إطلاق لفظ: (الفاحشة) على الفعل. ومن إطلاق الفاحشة على القول: قول عائشة رضي الله عنها: (إن النبي ﷺ لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً) صلوات الله وسلامه عليه، أي: ما كان ليقول أو يفعل ما لا خير فيه. وقوله تعالى (وَالْمُنْكَرِ): المنكر ضد المعروف، وهو ما أنكره الله تبارك وتعالى في كتابه، وأنكره رسوله ﷺ في سنته، والمنكر وُصِف بذلك لما فيه من النكارة وهي كل ما لا يحبه الله ويرضاه فإذا فعل العبد ما حرم الله عليه فإنه قد أصاب منكراً؛ لأنه من أعظم ما يكون جريمة أن يعصي العبد ربه، فبمعصيته لمن خلقه ورزقه، وأطعمه وكساه كان بذلك مرتكباً لأمرٍ منكر لا يحبه الله ولا يرضاه. يقول الله تعالى: (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ) أي: الشيطان. أما الفائدة الثانية: أن الآية فيها منهجٌ تربوي لمن أراد أن يعلِّم أو يربِّي غيره، ذلك أن الله تبارك وتعالى نهى العباد عن متابعة الشيطان، وذكر عاقبة مَن اتبع الشيطان، قال بعض العلماء: ذكر عاقبة من اتبع الشيطان أبلغ في زجر الناس عن متابعة الشيطان، بمعنى إذا أراد الإنسان أن ينهى صبياً أو يعلم جاهلاً فإنه ينبغي له أن يجمع في النهي بين أمرين: الأمر الأول: أن يحدد له الشيء الذي ينهاه عنه. والأمر الثاني: أن يبين له عاقبة الشيء الذي نهاه عنه. فذلك أبلغ في التربية والتوجيه والتعليم. وقد اشتملت الآية الكريمة على كِلا الأمرين، فحذرنا الله تبارك وتعالى عن اتباع سبيل الشيطان، وأخبرنا عن العاقبة التي ينتهي إليها كل من اتبعه وسار على نهجه وارتضاه، فقال: (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) هذا الأمر الذي يوجهه الشيطان إلى الإنسان إنما يوجهه بالوسوسة، فهي سبيل الشيطان للإنسان، ولذلك إذا وقف الإنسان أمام معصية من المعاصي وجد في نفسه دعوة تدعوه إلى تلك المعصية، وهي لَمَّة الشيطان والعياذ بالله، ووجد في نفسه ما يزجره عن فعل تلك المعصية وهي لَمَّة الخير التي جعلها الله عز وجل للمَلَك، ولذلك يعيش الإنسان بين اللَّمَّتين: منهما: لَمَّة الشيطان كما بين النبي ﷺ ذلك بقوله: (فإن للشيطان لَمَّة، وللمَلَك لَمَّة، فأما لَمَّة الشيطان: فتسويف بالخير و إيعاد بالشر، وأما لَمَّة المَلَك: فنهي عن الشر وإيعاد بالخير)، فهاتان لَمَّتان موجودتان في الإنسان. وبناءً على ذلك: فكل ما يجده الإنسان في نفسه من الدعوة إلى الحرام ينبغي أن يعلم أنه من الشيطان، وعلاج ذلك بيَّنه الله تبارك وتعالى بقوله: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: ٣٦] فمن أراد أن ينجو من هذه الأوامر التي يسوِّلها الشيطان لأوليائه، فما عليه إلا أن يستعيذ بالله عز وجل، فإنه نعم المولى ونعم النصير.
هداية الله العباد إلى طاعته
يقول الله تبارك وتعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور: ٢١]: هذا المقطع الثالث من الآية الكريمة اشتمل على أمرٍ عظيم وهو: أن هداية العباد إلى طاعة رب العباد موقوفة على الله تبارك وتعالى، وأن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يقلِّب العبد في طاعته فتزكو نفسه بمحبته واتباع سبيل ولايته أنه هو وحده القادر على ذلك، هو الذي يزكِّي القلوب برحمته، والزكاة في اللغة: الطهارة، قال الله تبارك وتعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس: ٩-١٠]. والمراد بقوله: مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ [النور: ٢١] أي: ما طهر قلب الإنسان من معصية الله تبارك وتعالى التي اشتملت عليها أوامر الشيطان، وفي هذا دليل على أنه لا نجاة من تلك الوساوس والخطرات إلا برحمة الله تبارك وتعالى، وكأن الله تبارك وتعالى يدعونا بهذه الآية الكريمة إلى التعلق به، وسؤاله النجاة من هذه الوساوس والخطرات، ولذلك صح عن النبي ﷺ أنه كان يكثر من دعاء الله عز وجل صلاحَ قلبه، وزكاةَ فؤاده، حتى قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) فالله تبارك وتعالى هو وحده الذي يزكي القلوب بفضله؛ فتنشرح لطاعته وسبيل محبته، وتكون أسبق ما تكون إلى ما يحبه ويرضاه، وأبعد ما تكون عن معاصيه التي لا يحبها ولا يرضاها، وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى هذا المعنى بقوله: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات: ٧] فالله تبارك وتعالى وحده هو الذي يحبب القلوب في طاعته، ويشرح الصدور لسبيل ولايته، فإذا أراد أن يصطفي أحداً لتلك الهداية أو يجتبيَه لتلك الولاية جعل قلبه منشرحاً زكياً نقياً طاهراً من هذه الوساوس، ولذلك قال بعض العلماء رحمهم الله: إن الإنسان إذا أراد أن يكون على درجة الصلاح والخير والاستقامة فينبغي أن يكون أبعد ما يكون عن الوساوس، كلما وجد في نفسه الوسوسة دفعها بذكر الله والاستعاذة به تبارك وتعالى، ومن ثم نبهوا على أن أخطر ما يُخشى على الإنسان الاسترسال في الوساوس والخطرات، وهي: التي يُدْلَى بها الإنسان إلى معاصي الله عز وجل، فيبتدئ الشيطان مع الإنسان في سمعه، أو في بصره، أو في لسانه، أو في فرجه، أو في أي شيءٍ من الأمور التي يملكها حتى يسهل له بها السبيل إلى حدود الله فيبتدئ بالسمع أو بالبصر، فيقول له: تمتع بسمعك أو تمتع ببصرك، ولا حرج عليك في النظرة والنظرتين، فيرسل النظرة، فتورث النظرةُ الشهوة، فيسترسل بالنظرة تلو النظرة حتى ينتهي إلى حديث النفس المستحكِم، فإذا استحكم الشيطان بذلك القلب واستأثر بالفؤاد انقلب ذلك القلب والعياذ بالله من طاعة الله إلى معاصي الله عز وجل، فيصبح يفكر كيف السبيل لإصابة تلك الشهوة، وإصابة ذلك الحد من حدود الله عز وجل؟ يقول الله تبارك وتعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ [النور: ٢١] الفضل في اللغة: الزيادة. وقوله: (فَضْلُ اللَّهِ): أي: تفضل الله تبارك وتعالى عليكم ورحمته؛ لأن النجاة من المعاصي والبعد عما لا يحبه الله عز وجل ويرضاه إنما هو رحمة من الله عز وجل يرحم بها من شاء، قال بعض العلماء: وَصَفَ الله عز وجل الهداية والاستقامة بكونها رحمة، لأن العبد يُرْحَم فيها في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا: فلأن صلاح الأمور بالاستقامة، وأما في الآخرة: فبالنجاة من عذاب الله عز وجل وعقوبته، وذلك إنما يكون بالتزام شرعه والبعد عن حدوده ومحارمه. وقوله تعالى: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور: ٢١] سميعٌ لأقوالكم، عليمٌ بأفعالكم. وقوله: (سَمِيعٌ): فعيل بمعنى فاعل أي: سامعٌ سبحانه وتعالى. وقوله (عِلِيمٌ): فعيل أيضاً، وصيغة فعيلٍ وهي دالة على المبالغة.
نهي الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين عن اتباع سبيل الشيطان
هذه الثلاثة الأمور، أشار الله تبارك وتعالى إلى أولها بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ). قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (يا): حرف نداء، و(أيُّ): منادَى، و(الهاء): للتنبيه... أي: يا من آمنتم بي، وآمنتم برسلي، وآمنتم بكتابي، ولقائي! لا تتبعوا خطوات الشيطان. هذا النداء من الله تبارك وتعالى استفتحه بهذه الخصلة العظيمة التي تدل على شرف الإنسان وعلوِّ مكانته عند الله عز وجل وهي صفة الإيمان بالله تبارك وتعالى. وفي استفتاح هذا النهي بهذا النداء تشويق لأهل الإيمان أن يلتزموا شرع الرحمن، أي: إن كنتم أهل إيمان وطاعة واتباع لي، ولسبيلي لا تكونوا متابعين للشيطان في أوامره التي يأمركم بها بالفحشاء والمنكر. وهذا النداء يستفتح الله تبارك وتعالى به بعض أوامره، ويستفتح به نواهيه، قال بعض العلماء: إن الله تبارك وتعالى يستفتح أوامره ونواهيه بهذا النداء؛ لكي يشوق السامعين والقارئين للقرآن للعمل بما تضمنه ذلك النداء من الأمر، ولترك ما اشتمل عليه من النهي، ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (إذا سمعت الله عز وجل يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا) فأرعها سمعك، فإنما هو خير تؤمر به، أو شر تُنهى عنه). ولذلك قال العلماء رحمهم الله: إن الله تبارك وتعالى يستفتح الآيات بهذا النداء الذي يتضمن أحد ثلاثة أمور: - إما أمر بالمعروف. - وإما نهيٌ عن المنكر. -


Icon