الوجه الرابع: أنها أطول سورة في القرآن، وقد افتتح بالسبع الطوال، فناسب البداءة بأطولها الوجه الخامس: أنها أول سورة نزلت بالمدينة، فناسب البداءة بها، فإن للأولية نوعاً من الأولوية الوجه السادس: أن سورة الفاتحة كما ختمت بالدعاء للمؤمنين بألا يسلك بهم طريق المغضوب عليهم والا الضالين إجمالاً، ختمت سورة البقرة بالدعاء بألا يسلك بهم طريقهم في المؤاخذة بالخطأ والنسيان، وحمل الإصر، ومالا طاقة لهم به تفصيلاً، وتضمن آخرها أيضاً الإشارة إلى طريق المغضوب عليهم والضالين بقوله: (لا نُفَرِقُ بينَ أَحدٍ مِنهُم) فتآخت السورتان وتشابهتا في المقطع، وذلك من وجوه المناسبة في التتالي والتناسق وقد ورد في الحديث التأمين في آخر سورة البقرة كما هو مشروع في آخر الفاتحة، فهذه ستة وجوه ظهرت لي، ولله الحمد والمنة
سورة آل عمران
قد تقدم ما يؤخذ منه مناسبة وضعها قال الإمام: لما كانت هذه السورة قرينة سورة البقرة، وكالملكة لها، افتتحت بتقرير ما افتتحت به تلك، وصرح في منطوق مطلعها بما طوى في مفهوم تلك وأقول: قد ظهر لي بحمد الله وجوه من المناسبات أحدها: مراعاة القاعدة التي قررتها، من شرح كل سورة لإجمال ما في السورة قبلها، وذلك هنا في عدة مواضع منها: ما أشار إليه الإمام، فإن أول البقرة افتتح بوصف الكتاب بأنه لا ريب فيه وقال في آل عمران: (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بينَ يديه): وذاك بسط وإطناب، لنفي الريب عنه ومنها: أنه ذكر في البقرة إنزال الكتاب مجملاً، وقسمه هنا إلى آيات محكمات، ومتشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله ومنها: أنه قال في البقرة: (واللَهُ يؤتي ملكه من يشاء) وقال هنا: (قُل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) فزاد إطناباً وتفصيلاً ومنها: أنه حذر من الربا في البقرة، ولم يزد على لفظ الربا إيجازاً وزاد هنا قول (أضعافاً مضاعفة) وذلك بيان وبسط ومنها: أنه قال في البقرة: (وأَتموا الحج) وذلك إنما يدل على الوجوب إجمالاً وفصله هنا بقوله: (وللهِ على الناس حج البيت) وزاد: بيان شرط الوجوب بقوله: ( ومَن كفرَ فإِن اللَهَ غنيٌ عَن العالمين) ومنها: أنه قال في البقرة في أهل الكتاب: (ثم توليتم إلا قليلاً منكم) فأجمل القليل وفصله هنا بقوله: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ومنها: أنه قال في البقرة: (قُل أَتحاجونا في الله وهوَ رَبَنا وربُكُم ولنا أَعمالنا ولكُم أَعمالكم ونحن له مخلصون) فدل بها على تفضيل هذه الأمة على اليهود تعريضاً لا تصريحاً وكذلك قوله: (وكذلِكَ جعلناكُم أُمةٌ وسطاً) في تفضيل هذه الأمة على سائر الأمم بلفظ فيه يسير إبهام، وأتى في هذه بصريح البيان فقال: (كنتُم خيرَ أُمةٌ أُخرجَت للناس) فقوله: (كنتُم) أصرح في قدم ذلك من (جعلناكم) ثم وزاد وجه الخيرية بقوله: (تأمرونَ بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) ومنها: أنه قال في البقرة: (ولَا تأَكلوا أَموالكُم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام) وبسط الوعيد هنا بقوله: (إنَّ الذينَ يَشترونَ بعهدِ الله وأَيمانهم ثمناً قَليلاً أُولئكَ لا خلاقَ لهُم في الآخرة)، وصدره بقوله: (وإِنَّ مِن أَهلِ الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إِليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) فهذه عدة مواضع وقعت في البقرة مجملة، وفي آل عمران تفصيلها الوجه الثاني: أن بين هذه السورة وسورة البقرة اتحاداً، وتلاحماً متأكداً، لما تقدم من أن البقرة بمنزلة إزالة الشبهة، ولهذا تكرر هنا ما يتعلق بالمقصود الذي هو بيان حقيقة الكتاب: من إنزال الكتاب، وتصديقه للكتب قبله، والهدى إلى الصراط المستقيم وتكررت هنا آية: (قولوا آمنا بالله وما أَنزل) بكمالها، ولذلك أيضاً ذكر في هذه ما هو تال لما ذكر في تلك، أو لازم في تلك، أو لازم له